في كل مرة تنهار فيها أسعار البترول تتواتر تصريحات المسؤولين على ضرورة الخروج من اقتصاد الريع إلى الاقتصاد المنتج.. حدث ذلك في 2014 و2015، ويحدث حاليا مع هذا الانهيار الكبير الذي يتزامن مع تهديد كورونا.
لكن المحير أن الأمر يتوقف عند حدود التّصريحات، ولا شيء يشير إلى تغيير حقيقي في طريقة تعاطي المسؤولين مع الموضوع، إذ لا زالت عقلية “البايلك” تعشّش في مؤسسات البلاد، إذا استثنينا بعض القرارات والإجراءات الشّكلية التي تريد أن تتحول بالبلاد إلى ما يسمى باقتصاد المعرفة.
إلى الآن، لا يزال الحديث عن المؤسسات الناشئة والاقتصاد الرقمي والتوجُّه الجديد نحو الاستثمار في التكنولوجيا مجرد “بريستيج” رسمي، إذ كيف يحدث ذلك، والبلاد تصنَّف ضمن آخر البلدان في سرعة الإنترنت؟ وكيف يحدث ذلك في ظل نظام مصرفي متخلف جدا، قد يكون هو الأسوأ في بلدان العالم أجمع؟ والغريب أن المبالغة في هذا الأمر يوحي بأننا نحن الذين اخترعنا الاقتصاد الرقمي ونسعى إلى تصدير تقنياته إلى الخارج لتعويض البترول.
لقد كشفت قضايا الفساد خلال الفترة الأخيرة حقيقة مروِّعة، وهي أنّ التّخلف الذي نشهده اقتصاديا كان بفعل فاعل، والأمر كله بدأ بطريقة تعيين المسؤولين بدءا من المناصب السّامية إلى المناصب الدنيا، ومن الطبيعي أن يكون أكبر همٍّ لهؤلاء المسؤولين هو خدمة من أوصلهم إلى مناصب المسؤولية، والدخول في سباق مع غيرهم من المسؤولين لتحقيق الثراء السريع عبر التصرُّف في الأموال العامة خارج القانون.
في قضية الاستيراد المقنَّع للسِّيارات، تابعنا كيف امتدت أيادي المسؤولين إلى جيوب المواطنين بعد أن استُنزِفت ميزانية الدولة؛ إذ تم توقيف الاستيراد ثم مُنحت رخص التركيب لرجال أعمال صنعتهم العصابة، هؤلاء استنزفوا المواطنين بسيارات خردة بيعت لهم بأسعار خيالية وحققوا بذلك أرباحا بالملايير!
لذلك؛ فإنّ أول خطوة للمرور إلى عهد جديد، هي تحقيق القطيعة مع الممارسات السّابقة، بدءا من مبدأ التعيين على أساس الكفاءة لا الموالاة، إلى اعتماد منظومة رقابية صارمة، مرورا على قضاء نزيه ومستقل، وفعل سياسي حقيقي بعيدا عن ديمقراطية الواجهة.. عندها يمكن الحديث عن بداية التحوُّل إلى عهد جديد.
والنقطة الأهم من كل ذلك هي ضرورة تغيير ثقافة المجتمع وإعادة الاعتبار لقيم العمل والاجتهاد والتخلص من ثقافة الريع التي تفهم المواطنة على أنها من الحق في السكن المجاني والعلاج المجاني والتعليم المجاني والسفر المجاني… ولا حديث عن الواجبات.
عن صحيفة "الشروق" الجزائرية