(1)
بعد صلاة العشاء في إحدى الليالي المظلمة سمع أهل القرية صوت استغاثة، وعرفوا أن سيارة ركاب "بيجو" انقلبت بمن فيها أسفل جرف "الرشاح" (الرشاح مصرف مياه يحاذي الطريق السريع على أطراف القرية). تجمع الناس بشهامة ريفية لمحاولة إنقاذ الركاب، واكتشفوا أن الأبواب لا تفتح والزجاج مغلق، كانت مهمة الإنقاذ صعبة بسبب الظلام وقلة خبرة الريفيين.. وبينما هم يتداولون في حيرة للبحث عن حل، اندفع "حماصة" بين الجموع واتجه نحو السيارة، غير مبال بنقاشات الملبين الذين هرعوا إلى مكان الحادث قبله...
(2)
قبل أن أكمل القصة الحقيقية التي رواها لي منذ سنوات بتفاصيل رائعة الوصف، صديق من أبناء تلك القرية، أضع أمامك يا سيادة الرئيس بعض المعلومات عن المنقذ الدكر "حماصة":
إنه سمسار فضولي متطفل على كل الموائد في القرية، لا ينطق الناس اسمه إلا مقرونا بوصف لاحق، عادة ما يكون صفة ذم، مثل "حماصة الخباص"، أو حماصة النمام، أو غُراب البين، أو رويتر التي طغت على تعبير "أبو العُرِّيف" الذي التصق به للسخرية من تدخله دائما فيما لا يخصه، ببساطة لأن حماصة (هكذا ينطق أهل القرية الاسم بالصاد وليس بالسين) ليس لديه ما يخصه، لأنه من "سواقط العائلات" تربى وعاش أيامه في المساحات البينية، ينقل الكلام والرسائل، يقوم بمهام الوساطة في أي شيء يطلبه من يدفع الجنيه أو يقدم اللقمة، وبسبب اختلاطه بالعائلات والغرباء، وبسبب السفر مع الناس لقضاء الحوائج في المدينة أو العلاج، أو حضور جلسات التقاضي.
تعلم حماصة بعض الأشياء، وبدأ يتعامل مع القرويين الذي يرافقهم للخدمة، معتبرا نفسه طبيبا ومحاميا وتاجرا وخبيرا في كل شيء. وتواطأ الناس مع وهم "حماصة" عن نفسه، وصار لديه مجال للحضور على هامش المجالس، وشهوة للحكي والكلام.. كان صغيراً بين الكبار، وكبيرا بين الصغار، يعيش ويتغذى وينتعش في المساحات البينية. وبرغم إحساسه الكامن بنظرة الناس الهزلية له، أدرك أنه أصبح مطلوبا أيا كانت نظرة الناس له، وأدرك أن احتياج الناس إلى وجوده وكلامه يكفي ليصدق الكذبة التي يجاريه الناس فيها، وهي أهميته وأهمية وجوده لأهل القرية. فالناس في العادة يحتاجون لمثل هذه الشخصيات لإنهاء قضاياهم المعلقة بواساطات بعضها شرعي، ومعظمها مريب، كما يحتاجون إلى من يخدم بأجر، وينجز أي مهمة مقابل ثمن. فمثل هؤلاء يوفقون الرؤوس في الحلال والحرام بنفس الاهتمام، لأنهم ينظرون إلى أجر كل مهمة باعتبارها صفقة لا علاقة لها بحق أو عقيدة أو أخلاق.. إتس بيزنس، يعني بكام؟.. ومنين؟!!
(3)
قبل أن يصل "حماصة" ويقتحم تجمهر الناس حول السيارة المقلوبة، سمع أن الركاب السبعة محاصرين داخلها بسبب رضوض الصاج واعوجاج الدعامات الحديدية في جسم السيارة، وسمع أيضا أن الناس المهتمين بالإنقاذ تباطأوا بسبب غياب الرؤية وضعف الإمكانات، وتخوفوا من أي تصرف، ووقفوا قرب العربة يناقشون الحلول فيما بينهم، عاجزين عن إنقاذ الركاب المحاصرين ومعرفة طبيعة الإصابات أو الوفيات التي حدثت.
وسط هذا العجز اندفع حماصة رأسا إلى مكان السيارة وهو يقول: فيه إيه يا ناس؟.. انتو هتفضلوا كده ما تعرفوش تعملوا حاجة من غيري، ولو اتأخرت الناس تموت، عربية إيه اللي مش عارفين تفتحوها؟ وضلمة إيه اللي تمنعكم من إتقاذ الناس؟.. ثم مد حماصة يده في جيبه وأخرج ولاعته "الرونسون" التي كان يتباهى بأنها "من الكويت ومش موجودة منها في
مصر غير تلاتة بس"، وأشعل نيران القداحة ودار بها ملاصقا لزجاج السيارة، وإذا بنيران هائلة تشتعل وتغرس الفزع في العيون.
(4)
كان خزان البنزين قد انشطر تسرب الوقود ليغرق السيارة والأرض المحيطة بها. ويحكي صديقي أنه لم يشاهد وجوه الركاب ولا إحساسهم بالصدمة والفزع الأخير، لكنه شاهد كفوف بعضهم من خلف زجاج السيارة، وظلت صورة الكفوف المفتوحة بأصابعها الخمسة، تؤرق نومه في الكوابيس لعدة أشهر بعد تلك اللحظة. أما "حماصة" فقد اعتبر أن الحادث قضاء وقدر، وظل يحكي القصة بنفسه مشيدا بجرأته ومهارته في النجاة من الانفجار المباغت، بينما ظل الناس يتداولون القصة بخفة مضحكة عن تطفل وحماقة حماصة وعدم تقديره للعواقب.
ولم يعرف الناس حتى اليوم شيئا عن حياة ركاب السيارة، ولا المآسي التي تركوها وراءهم ولم يشعروا بأي ندم تجاه عملية "الإنقاذ المُهلِك"، كل ما بقي في الذاكرة حكاية طريفة عن "حماصة الحشري" ونوادره الهزلية، لكن المأساة كانت هناك في مواطن بعيدة عن إدراك اللاهين في بلد حماصة!
(5)
اعذرني يا سيادة الرئيس، ليست لدي اليوم رغبة في النقد السياسي، فقد تجاوزت الوساطات الحقيرة والعمالة الرسمية قدرتي على الكلام، وما هذه القصة التي أرويها، إلا حيلة للهروب من كلام لن يدخل عقلك ولن يدق له قلبك، وأرجو أن تقرأها باعتبارها "حدوتة رمزية" وطرفة شعبية تقترب من وصف "مهمة الإنقاذ المهلكة" التي تتحدث بها ويتحدث بها إعلامك التابع، لدعم صفاقة سيدك في البيت الأبيض وصفقته المسمومة..
فلسطين ليست للهزل أيها الرئيس، وليست أيضا للمساومة في مزاد الصفقات.. فلسطين ولدت جميلة ويتيمة تحت جبل المأساة، وعاشت تعاني بلا تنازلات، سلبها من طمعوا، وصلبها من طغوا وظلموا، وخانها من خانوا، لكنهم جميعا كانوا يذهبون، وتبقى فلسطين حية، مهما اشتدت الآلام ومهما امتدت حراب التمزيق والطعن.
(6)
أعرف أن ملايين الكلمات تفيض الآن بشأن فلسطين، بعضها يهلل دعما لصفقة
ترامب الصهيونية، وبعضها يتحفظ بدبلوماسية باردة، وقليلها يحفظ فلسطين في القلب، أرضاً للأنبياء وللناس معا، ساحة للصراع من أجل حق لن يموت وإن غاب.
ليست لدي بندقية يا سيادة الرئيس، لكنني لا أحتاج إليها فمن يملكون البنادق الآن لا يدافعون عن عرض ولا أرض.. أنا فقط أحتاج إلى إشهار إيماني في وجوهكم الخائنة، أحتاج إلى صوتي لفضح خبثكم وعمالتكم الرخيصة، وإسهامكم الكاذب في مهمة إنقاذ فلسطين، وهي المهمة التي ذكرتني بقصة حماصة، حيث تنتهي حماقة الجهلاء والسماسرة بجرائم بلا حساب، لكن جريمة تهويد فلسطين لن تمر بصفقة أو قصة وهمية، كما مرت جريمة حماصة.. "فلسطين عربية"، لكنها ليست "عربية حماصة". وبرغم طرافة المقارنة إلا أن عربية فلسطين غير قابلة للحرق، وأبناء شعبها ليسوا "ركاب سيارة بيجو"، ليسوا مجهولين عابرين لا يعرف تاريخهم أحد، ولن يتتبع مصائرهم أحد، لأنهم جزء من أمة لن تموت ولو مرضت، لن تنسى وتصدق الزيف وإن تواطأت مع قصص ومرويات حماصة وإعلامه المزور.
فلسطين تاريخ لن تغيره حلول القوة الغاشمة وخيانات السماسرة والعملاء، فلسطين تاريخ يستعصي على التذويب في بوتقة الأمر الواقع، وأقولها لمثلك من سماسرة النظام العربي يا سيادة الرئيس:
نعم نحن في ضعف، ونعم لن نقدر الآن على إعادة فلسطين من النهر إلى البحر، ونعم نرى فلسطين على المذبح تحت سكين الذبح أو الاستسلام، لكن حلول الإذعان للأمر الواقع، تتغير بتغيير الأمر الواقع، ونحن نسعى لتغيير هذا الواقع الذليل.. قد نقف لفترة عاجزين، قد نسرف في الكلام بلا فعل كما فعل أهل القرية، لكن عجزنا ونقاشنا لن ينتهي أبدا بحماقة حرق فلسطين بدعوى إنقاذها.
أنت مجرم يا سيادة الرئيس.. أنت خائن للأمانة، جاهل بالتاريخ وبقدرات الشعوب، ككل الوسطاء والعبرين ليست لديك ثوابت ولا ذاكرة تاريخية، ولو كان لديك بعضا من هذا لعرفت أن النيران التي عاشت في وسطها فلسطين طوال التاريخ لم تحرقها، لكنها حرقت يهوذا وأسياده وأتباعه من اللصوص الذين عادوا بوجوه زائفة خلف شعار الصليب أو الحلول السلمية لقضية الأرض المقدسة.
فلسطين عربية.. القدس عربية..
تسقط صفقة السمسار
tamahi@hotmail.com