قبل أن تكتمل معرفتنا بشخصيته، اعتقدنا، وكل اعتقاد اجتهاد، أن
السيسي قد يهرب من مشكلاته إلى الأمام، باختلاق معركة يشغل بها
القوات المسلحة، كما فعلها عبد الناصر من قبل. وفي المعارك يصبح الشعار المعتمد "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، عندما يصبح من حسن وطنية المرء أن يصطف خلف قيادته العسكرية، حتى لو كانت النتيجة هزيمة نكراء، كما حدث مع الزعيم الأوحد، الذي تنحى فخرجت الجماهير تطالبه بعدم التنحي، ليستغل الهزيمة في إبعاد كل من يهددون عرشه بالقتل أو بالسجن!
وإذا كان هناك من أكدوا أن المظاهرات التي خرجت لتطلب من عبد الناصر عدم التنحي عفوية، فإن عبد اللطيف البغدادي، أحد الضباط الأحرار كتب في مذكراته أن الرئيس أعد العدة لهذا الخروج الجماهيري الذي بدأ مدبراً، ولا يمنع هذا من أن هناك من شاركوا فيه بعفوية، وهو إدماج منا لروايتين مختلفتين، وهذا ليس موضوعنا!
فالمهم هنا، أنه عندما عرفنا شخصية عبد الفتاح السيسي تمام المعرفة، صرنا على يقين من أنه لن يهرب إلى
الحرب أبداً، ولن يغامر بخوض معركة يدرك تماماً أنه سيواجه فيها عدواً، وإن كان لا مانع من الحرب من وراء حجاب ضمن آخرين، والوقوف في الحديقة الخلفية لميدان القتال، كما يحدث منذ سنوات في
ليبيا، ومنذ ظهور خليفة حفتر مندوباً عن أهل الفتن الذين يبغونها عوجاً، وعن الثورة المضادة التي تستهدف تمزيق ليبيا، وهزيمة الثورة فيها، حتى لا تقوم لها قائمة، ولا تكتمل فيها مسيرة الديمقراطية الوليدة، فلن يخوض حرباً الهزيمة فيها أمر وارد، فلهذا فقد خذل حلفاءه في حرب اليمن، كما خيّب رجاءهم فيه في ليبيا بعد
قدوم القوات التركية!
مرشح الجيش واختياره:
وهو هنا قد لجأ إلى الخيار الثالث، بين خوض الحرب، أو الإحجام عن خوضها، وهي "الحرب الافتراضية"، التي بها يمكن أن يتحصل على مكاسب الحروب، دون أن يتورط فيها، وهو ما نشاهده الآن من حشد لعموم
المصريين، للوقوف مع الجيش المصري، وعلى أساس أنه من يمثله. وقد عزف في الآونة الأخيرة نغمة أنه مرشح الجيش لمنصب رئيس الجمهورية، وأنه خياره الأفضل، وأن الحكم هو اختصاص أصيل للقوات المسلحة، والذي سيؤول إليها بعد "عمر طويل"!
ومن هنا فالدعوة للوقوف خلف الجيش تعني الوقوف خلف السيسي، الذي يخوض
معركة الأمن القومي المصري، والتي يتم اختزالها في ملاقاة عدو الأمة وسليل الاحتلال العثماني رجب طيب أردوغان، وبشكل يوحي كما لو كنا نقف على الجبهة، وأن الجيش المصري يقف على خط النار، وآخرين من دونهم اعتبروا أن اللحظة التاريخية التي تمر بها البلاد، ينبغي أن تدفعهم لترك معارضتهم للحكم، والوقوف خلف الجيش!
وليس خافياً على أحد أن عزف هذه النغمة من قبل المعارضين، إنما تنتجها حالة نفسية، سببها أنهم يعتقدون أنهم مطعون في وطينتهم، وبالتالي فإن عليهم أن ينتهزوا هذه الفرصة للتأكيد على أنهم وطنيون، والدليل أنهم يصطفون خلف جيش بلادهم في ساعة الحرب!
وليس كل المعارضين الذين يعزفون هذه النغمة سواء، فمنهم من يحسبون أردوغان على جبهة الخصم الإخواني، وبالتالي فإن مقاومته مقدمة عندهم على مقاومة حكم الطغيان، الذي استباح البلد ومقدراته وفرط في التراب الوطني وفي حصة مصر التاريخية من مياه النيل، وهو أمر لم يسبقه إليه حاكم من قبل، بمن في ذلك الحكام "الأغراب" سواء كانوا من العثمانيين أو من غيرهم، كما لم يسبقه إليه حاكم مصري، "كريم العنصرين"!
ومنهم من يقع أسيراً للحسابات الخطأ، فيتصور أن المؤسسة العسكرية هي جهة مستقلة عن عبد الفتاح السيسي، وإذا كانوا قد خسروه وصنفوا على أنهم من معارضيه، فقد جاءتهم الفرصة ليؤكدوا انحيازهم للطرف الأقوى في منظومة الحكم، بالدعوة للاصطفاف خلفه. ألم يطلب البعض بسذاجة من الجيش أن ينقلب على عبد الفتاح السيسي، وظن البعض أن خطة الانقلاب جاهزة، وسيقوم بها وزير الدفاع اللواء محمد زكي، كما تصرف من قبل عندما كان قائداً للحرس الجمهوري بتسليمه الرئيس محمد مرسي للانقلابيين؟!
التوحم على الحرب:
ولنترك هؤلاء إلى من يتوحمون على الحرب، من جماعة السيسي، وهم أنفسهم عندما قلنا إن سد النهضة يستدعي الدعوة للتعبئة العامة، وأن الحفاظ على حصة مصر التاريخية من نهر النيل، أمر يستدعي إعلان الحرب، نظروا إلينا كما لو كنا نتحدث عن أساطير، وهو ما رددنا عليه بأن الحرب ليست عيباً أو حراما، وإلا فلماذا تنشأ الدول الجيوش، إذا تم النظر للحرب على أنه من الحرام المطلق؟!
لقد اختفت النغمة الآن، وتم إعلان النفير العام على "فيسبوك" لقتال القوات التركية حفاظاً على الأمن القومي المصري، وكأن من فرط في تيران وصنافير ووقع اتفاقية المبادئ الخاصة بسد النهضة، هو المعني بالحفاظ على الأمن القومي المصري، والمختص بتحديد حدوده ومحدداته!
تدخل على منصات التواصل الاجتماعي، فيستقر في وجدانك أن طبول الحرب تدق، وأن قادة الجيش في غرفة العمليات، وأن القوات المصرية على الجبهة، ليصبح المعلن هو الوقوف مع الجيش ومع القيادة السياسية وتأجيل كل معارضة إلى حين دحر العدوان، والحفاظ على الأمن القومي المصري، والإيقاع الهزيمة بقوات العدو التركي!
ولم نكن نعتقد أن هناك من "يتوحمون" على الحرب إلى هذه الدرجة، ولا نعرف لماذا لم يدعوا إليها إزاء التهديدات التي تتعرض لها حصة مصر من مياه النيل، وحتى بعد أن أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي جاهزية بلاده للحرب، وبلعوا الإهانة فلم يصدوا ولم يردوا!
المشكلة أن الحاكم العسكري لمصر، يستغل هذه الأجواء في حشد الناس خلفه، دون دفع فواتير مستحقة عليه، من التبشير بجني ثمار التنمية في العام المنصرم، وفي تجاوز فضيحة سلسلة القصور الرئاسية التي أنفق عليها المليارات من لحم الحي، ثم إنه يريد أن يقفز بهذه الدعوة للنفير العام، فتمر ذكرى ثورة يناير على خير، وليس عندي معلومات عن حراك سيحدث فيها، لكنه في كل سنة يضع يده على قلبه إلى حين أن تمر الذكرى على خير!
إنه في استثمار عملية الحشد والتسخين للحرب، لن يدخل حرباً أبداً، لكنه اكتشف بديلا ثالثاً، بين الحرب واللاحرب، هو الحرب الافتراضية، في زمن حروب "البلاي ستيشن"!
فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. سواء كانت حقيقية أو افتراضية!