منذ نهاية الحرب الباردة، لم يصبح لموسكو دور رئيسي في المجال المغاربي. فكل من فتح عينيه في المنطقة المغاربية منذ تلك الفترة، لا يمكن أن يستحضر أن
روسيا كانت طرفا فاعلا. لكن لم يكن ذلك هو الوضع على الأقل لثلاثة عقود من الستينيات إلى نهاية التسعينيات، إذ كان الاتحاد السوفييتي طرفا حاضرا بقوة في كل من ليبيا والجزائر، مقابل ميل
تونس لواشنطن حينها. ورغم ذلك لم يكن ذلك يشكل مشكلا لأن السياسة الخارجية التونسية، وربما باستثناء وضعيات قليلة، تعتمد إقامة حالة توزان بين الشقيقين، اللذين وإن تموقعا استراتيجيا في محور وارسو، إلا أنهما كانا في حالة تنافس حول موقع "قيادة القوى الثورية".
يبقى أن الوضع الراهن مختلف جذريا؛ إذ إن الدول القائمة أضعف من قبل، وتتميز تونس بتجرية ديمقراطية استثنائية يراها المعنيون بحلف روسي في ليبيا (
حفتر) أو
الجزائر (منظومة العسكر الحالية) تهديدا للاستقرار. وينسجم ذلك مع التوجه الروسي العام الذي يستعدي آليا أي تغيير ديمقراطي ويراه عموما على أنه جزء من مؤامرة أمريكية.
بحلول الجمعة، سيتم الإعلان عن رئيس جديد في الجزائر، وكل التقديرات تشير إلى "مرشح القايد صالح"، أي وزير الإسكان السابق عبد المجيد بتون. خيار التسريع في انتخابات رئاسية مبكرة كان قرار صناع القرار في الجزائر، بالرغم من رفض الحراك في الشوارع. لكن حظي أيضا بدعم دولي محدد، أي الدعم الروسي. وفي خطوة غير معهودة، استقبل السفير الروسي في الجزائر إيغور بيلياف، يوم 28 آب/ أغسطس، بمقر جبهة التحرير الوطني، بحضور زعيم الحزب محمد جمعي. ووفقا لبيان صادر عن الحزب حينها، أعرب بيلياف عن دعم بلاده لإجراء انتخابات رئاسية في الجزائر "في أقصر وقت ممكن"، وأن "روسيا تعتقد أن الحل للأزمة في الجزائر هو بتنظيم انتخابات رئاسية في أقصر وقت ممكن".
كما عبر رئيس الدبلوماسية الروسية لافروف في 19 آذار/ مارس 2019، أي بعد مرور ما يقرب من شهر على انطلاق الحراك، عن أن موقف موسكو هو رفض "أي تدخل في الشؤون الجزائرية". وقال لافروف في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الجزائري رمضان العمامرة: "على الشعب الجزائري أن يقرر مستقبله ومصيره على أساس دستوره ووفقا للقانون الدولي".
الحقيقة أن أحد أهم التحولات التي تسارعت وتيرتها مؤخرا هو تراجع العلاقة مع فرنسا، وتوثقها مع روسيا. ووفقا لموقع سبوتنيك الروسي الرسمي، نقلا عن موقع "MENAdefense" الجزائري، فقد وقّع الجيش الجزائري في بداية أيلول/ سبتمبر، في معرض "MAKS 2019" للملاحة الجوية والفضاء بموسكو، عقدين يتعلقان بالاستحواذ على سرب من ميغ "29م/ م2"، وأسطول من طراز "سو 30". وفي الآونة الأخيرة، تحت عنوان "روسيا تريد تعزيز مبيعاتها من الأسلحة إلى الجزائر"، كشف موقع "الجزائر" في 1 كانون الأول/ ديسمبر 2019، أن روسيا كانت تقترح على الجيش الجزائري "نظام دفاع متعدد المستويات ضد الطائرات الصغيرة دون طيار، يمكن أن تشكل تهديدا للمرافق الحيوية للبلاد".
وكان عبد المجيد تبون، في حوار مع تلفزيون "يورونيوز"، قد حذر باريس من التدخل في شؤون الجزائر، قائلا باللهجة الجزائرية: "ما تعطينيش رأيك، رايك طبقوا في بلادك" (يورنيوز 17 تشرين الأول/ نوفمبر 2019).
وعبد المجيد تبون المعروف في الأوساط الجزائرية بأن له شخصية ضعيفة منذ كان وزيرا في أكثر من موقع قبل تقلده الوزارة الأولى في 2017 وإقالته المهينة، عرف عنه استكانته التامة لمنظومة الحكم، ومن ثم من المتوقع أن يواصل في الخط السياسي ذاته لقايد صالح.
في الوقت ذاته، يتزايد التورط الروسي بأشكال مختلفة في ليبيا على الحدود الشرقية لتونس قرب طرابلس. وبعد الأخبار المتزايدة عن وجود مئات من قناصة وعسكريي المؤسسة الخاصة للمرتزقة "فاغنر" التابعة ليفغيني بروغزين، أحد أقرب مقربي الرئيس بوتين، فإن وثائق أخرى سربها موقع "The Interpreter" الأمريكي منذ أشهر قليلة؛ تحيل على تورط الشخص نفسه في تحضير "استراتيجية" حفتر في السيطرة على ليبيا، وورد في إحدى هذه الوثائق أن "خليفة بلقاسم حفتر يسيطر على المنطقة التي يعيش فيها ثلث الناخبين. لذلك، قبل طرح ترشيحه للرئاسة والانتخابات، نحن بحاجة إلى إيجاد آليات عملية في أجزاء أخرى من ليبيا." ويبدو في هذه الوثيقة التي كتبت ووجهت إلى حفتر آخر سنة 2018، تشير إلى أن الطريق الوحيد للانتخابات هو السيطرة على كل الأراضي، وإلا فإن حفتر سيخسرها.
بين التوجه لتركيز حكم أوتوقراطي على حدود تونس الشرقية ومنظومة حكم قديمة رجعت لغريزة الحرب الباردة تواصل في المناورات، فإن تونس بين فكي كماشة التوغل الروسي في شمال أفريقيا.