هذه هي المعادلة الحقيقية الآن أمام المصريين، فإما أن يقبلوا السيسي طوعا أو كرها، وهذا يعني قبولهم التنازل عن حقوقهم المشروعة في مياه النيل، وإما أن تكون أولويتهم هي حماية هذه الحقوق المائية، وهذا لن يتم بوجود السيسي على رأس السلطة في مصر.
السيسي الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري اغتصب به الإرادة الشعبية ولم تعد له أي شرعية شعبية؛ دفع أثمانا باهظة بحثا عن شرعية مفتقدة، ومن هذه الأثمان التنازل عن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل عبر توقيعه على إعلان الميادئ مع الجانبين الإثيوبي والسوداني، في آذار/ مارس 2015، وهو الإعلان الذي أقر بحق إثيوبيا في بناء السد، ولم يتضمن كلمة واحدة عن حقوق مصر المشروعة في مياه النيل، وهو أيضا الذي فتح الباب للممولين والمستثمرين الأجانب لضخ تمويلاتهم الضخمة للمساهمة في بناء السد، بعد أن كان هؤلاء الممولون والمستثمرون محجمون عن ذلك التزاما بالاتفاقات الدولية السابقة التي تمنع تقديم تمويلات لسدود محل خلاف بين دول المنبع ودول المصب.
السيسي الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري اغتصب به الإرادة الشعبية ولم تعد له أي شرعية شعبية؛ دفع أثمانا باهظة بحثا عن شرعية مفتقدة
قبل ساعات من لقائه مع السيسي في سوتشي الروسية على هامش القمة الأفريقية الروسية الذي جرى يوم الخميس؛ حرص آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي أن يطلق تهديدات قوية ضد مصر بإمكانية اللجوء إلى الحرب حال تعرض السد لأي ضرر، وأن بمقدوره (آبي أحمد) أن يحشد ملايين الإثيوبيين للحرب، كما أن بمقدوره أن يقابل الصواريخ بالقنابل.
ما كان لآبي أحمد أن يتفوه بهذه التهديدات لولا أنه وجد أمامه شخصا ضعيا "قزما" يحكم مصر ويفرط في حقوقها، المرة تلو المرة. كما يدرك آبي أحمد أن هذا الشخص يفتقد تماما لأي شرعية شعبية، ويخسر كل يوم جزءا من الكتل التي كانت داعمة له، بفضل سياساته التخريبية والفاشلة، والتي تسببت في بلوغ أكثر من ثلث المصريين لحد الفقر واقتراب ثلث آخر من هذا الحد، مع غلاء الأسعار وإلغاء الدعم ونقص الخدمات.. الخ، وبالتالي فقد وجد آبي أحمد الفرصة سانحة أمامه لينجز في وقت قصير ما عجزت الكثير من الحكومات الإثيوبية السابقة عن إنجازه في عقود.
في مقابل تهديدات رئيس الوزراء الإثيوبي، والذي جلس أمام السيسي في سوتشي واضعا قدما على قدم، لم يجد السيسي ما يفعله سوى إشادته به وتكرار تهنئته بحصوله على جائزة نوبل للسلام، والأدهى أنه يصفه بأنه أثبت بحق أنه
رجل سلام!! الغريب أن آبي أحمد زعم أن تصريحاته المتضمنة التهديد بالحرب (والتي سمعها العالم كله) قد جرى اجتزاؤها!!
يستأسد السيسي على شعبه وهو في الحروب نعامة، ويستخدم الجيش أو بعضا منه في قمع هذا الشعب، لكنه يجبن عن مواجهة خطر حقيقي على أمن مصر وشعبها. وهل هناك خطر أكبر من نقص المياه
يستأسد السيسي على شعبه وهو في الحروب نعامة، ويستخدم الجيش أو بعضا منه في قمع هذا الشعب، لكنه يجبن عن مواجهة خطر حقيقي على أمن مصر وشعبها. وهل هناك
خطر أكبر من نقص المياه التي هي شريان الحياة لأي شعب؟! وقد كشف الواقع أن السيسي لا يجبن فقط عن المواجهة، بل إنه يتطوع بالتنازل تلو التنازل عن السيادة والأرض والغاز والماء قبل أن يتعرض لأي تهديد جدي من أي طرف، إنه يفعل ذلك طلبا لرضا أطراف بعينها ساعدته في "ساعة العسرة" التي مر، ولا يزال يمر بها عقب انقلابه المشؤوم.. يفعل ذلك وليس في حساباته الشعب المصري الذي يدرك أنه ليس هو من أوصله إلى السلطة، وليس هو من أبقاه حتى الآن فيها، وبالتالي فلا يهمه أن يشرب هذا الشعب مياه المجاري (الصرف الصحي) التي أعلنت حكومته عن خطة طموحة لتحليتها كبديل لمياه النيل، ولا يهمه أن يعطش هذا الشعب فلا يجد حتى مياه المجاري ذاتها.
حين صدرت تهديدات آبي أحمد غير المسبوقة ظن الكثيرون أنها قد تكون فرصة ذهبية للسيسي ليرد على هذه التصريحات بمثلها أو أكبر منها؛ لأنه سيكون في مأمن من أي نقد دولي من ناحية باعتباره مجرد رد فعل، كما أنه سيتمكن من ناحية ثانية من صناعة شعبية ولو مؤقته له في الداخل المصري، لكن شخصية السيسي الضعيفة تأبى عليه ذلك، ولذلك وجدنا الرد في تصريح هزيل لوزارة الخارجية تعلن فيه صدمتها من تصريحات آبي أحمد التي راح بيان الخارجية يشكك في صحة صدورها عنه، رغم أن العالم كله سمعها بشكل مباشر أثناء حديثه العلني في البرلمان الإثيوبي بحضور وسائل الإعلام المحلية والدولية.
كشفت خرائط جوجل أن عمليات البناء لم تتم إلا بعد العام 2014، أي بعد ترشح السيسي لرئاسة الدولة ووصوله إلى قصر الاتحادية، وسخريته من موقف مصر الثورة ورئيسها المدني وقواها الوطنية التي اعترف هو شخصيا أنها أقلقت الإثيوبيين
عندما كان على رأس السلطة في مصر (ولسنة وحيدة يتيمة) رئيس مدني، هو الرئيس الشهيد محمد مرسي، ورغم أنه لم يكن يمسك بكل أدوات القوة في يده، إلا أن تصريحاته عن النيل كانت دوما قوية، ولم ينس المصريون قوله "إذا نقصت قطرة من مياه النيل ففداؤها دماؤنا"، أو قوله إن
كل الخيارات مفتوحة للدفاع عن حقوق مصر في مياه النيل، أو حشده لقادة السياسة والرأي في مصر في لقاء وطني جامع برئاسة الجمهورية للتشاور، وبناء موقف وطني موحد ظهر للجميع من خلال البث المباشر لذلك اللقاء، سواء تم ذلك بطريقة مقصودة أو غير مقصودة. وقد دفع هذا الموقف الوطني القوي إثيوبيا للتريث في بناء السد، إذ كشفت خرائط جوجل أن عمليات البناء لم تتم إلا بعد العام 2014، أي بعد ترشح السيسي لرئاسة الدولة ووصوله إلى قصر الاتحادية، وسخريته من موقف مصر
الثورة ورئيسها المدني وقواها الوطنية التي اعترف هو شخصيا أنها أقلقت الإثيوبيين، وأنه هو من سارع لطمأنتهم!! كما أنه ما فتئ يتهم الثورة كذبا وبهتانا بأنها السبب في بناء السد، وهو ما ثبت كذبه كما ذكرنا، وها هو يبيع الوهم مجددا للمصريين عبر الدخول في مفاوضات فنية جديدة يعلم الجميع نتائجها مسبقا، فهي لن تضيف
للمفاوضات السابقة شيئا سوى كسب مزيد من الوقت حتى يكتمل بناء السد تماما.
مجددا، إذا كان الشعب المصري أو ما تبقى من مؤسسات وطنية حريصين على حماية الحقوق المائية فليس أمامهم سوى التخلص من عبد الفتاح السيسي. ففي وجوده ليس هناك مجال للحفاظ على أي شيء، بل علينا أن نتوقع المزيد من التنازلات، سواء في ملف سد النهضة أو غيره من ثروات وأراضي مصر.