أسدل الستار أو يكاد على الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس بعد فوز أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد بالصدارة في الجولة الأولى للرئاسيات وهو الموقع الذي من المتوقع أن يؤكده خلال الجولة الثانية. لكن الانتخابات التشريعية تمثل في الحقيقة المحرار الحقيقي لقياس الفعل السياسي التونسي ولمعرفة حجم الأحزاب والمكونات السياسية ودورها في المشهد الجديد تنفيذا وتشريعا وقضاء خلال قادم المدة النيابية. ينطلق هذا الإقرار من طبيعة النظام السياسي التونسي الذي أقرّه الدستور بما هو نظام برلماني بالدرجة الأولى وهو النظام الذي تكون فيه صلاحيات الرئيس محدودة ومقيدة بمجلس نواب الشعب وبعمل رئيس الحكومة.
يمثل الطيف السياسي ذو المرجعية الإسلامية مدار اهتمام كثيرين في الداخل والخارج بل يمكن القول إن كل الاهتمام ينصبّ على أداء الإسلاميين السياسي دون غيرهم وخاصة في تونس مركز زلزال الثورات العربية. هذا الموقع يجعل من قراءة دور الإسلاميين وطبيعة أدائهم الحزبي مدخلا أساسيا لفهم مستقبل التجربة الثورية في تونس.
لماذا الإسلاميون؟
يعود التركيز على الأداء السياسي للجماعات الإسلامية وخاصة منها تنظيم الإخوان إلى عوامل كثيرة منها الداخلي ومنها وطأة الفعل الخارجي.
مثلت التنظيمات السياسية الإسلامية منذ منتصف القرن الماضي العقبة الأساسية أمام تشكيلات السلطة الرسمية سواء في شكلها العسكري أو الوراثي أو الأمني. كانت مصر مركز الحركة السياسية الإسلامية في بداية المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني نهاية الأربعينيات ثم تطورت إلى مواجهة مع النظام العسكري في مصر بعد انقلاب جماعة العسكر في 1952 الذي سمّي بعدها ثورة يوليو. بقي الإسلاميون وخاصة تنظيم الإخوان في حالة صدام مع الأنظمة الرسمية العربية خاصة بعد تشكل نماذج معارضة قريبة منه في أغلب الدول العربية مشرقا ومغربا.
تعيش التجربة الإسلامية في تونس لحظة حرجة من تاريخها بعد أن تبخّر خزان التعاطف الشعبي وأصبحت مطالبَة حتى من طرف قواعدها بأن تكون أكثر صرامة في التعامل مع القضايا الحارقة
لم تنجح النسخ الإسلامية التي صنعتها مخابرات الأنظمة الرسمية في النيل من الرصيد السياسي للإخوان خلال النصف الثاني من القرن الماضي رغم كل الموجهات السلمية أو العنيفة التي ميزت العلاقة بين الطرفين في أكثر من قطر عربي. لكنّ حملات القمع التي تعرضت لها الجماعة ساهمت في إضعاف نشاطهم الميداني وأبعدتهم عن واجهة الأحداث خلال مدة من الزمن لكن الحدث الأبرز الذي ضرب بعمق الأداء السياسي للإخوان إنما تمثّل في الحرب الكونية على ما أسمته الإدارة الأمريكية "الإرهاب الإسلامي" الذي كانت مقدمة لغزو العراق ووضع اليد على ثرواته.
كانت هذه المرحلة أصعب المراحل في تاريخ التيارات الإسلامية كلها ولم يقتصر ذلك على جماعة الإخوان لأن الحرب الأمريكية على الإسلام كانت فرصة ذهبية للطغاة العرب من أجل السعي إلى استئصال أعدائهم. شنت المخابرات وأجهزة الأمن العربية حملات كبيرة ضد التيارات الإسلامية بعد أن أطلقت المنظومة الدولية يدها وأعفتها من كل محاسبة أو سؤال. وشملت هذه الحملات كل التيارات الإسلامية تقريبا بما فيها جماعة الإخوان المسلمين باعتبارهم العدوّ التاريخي للطغاة العرب.
لكن ثورات الربيع العربي خلقت سياقا جديدا قطع مع سابقه لأنه حرّر الجماعة من السطوة المباشرة للنظام القمعي ومنحها فرصة تاريخية في تغيير المعطيات على الأرض لصالحها.
تجربة الإسلاميين
لم تكن تجربة الإسلاميين السياسية بعد الربيع العربي تجربة سهلة. فكان الخطأ الأول قفزهم إلى السلطة دون قياس للعواقب، وهو في نظرنا خطأ كارثي كلّف الحركة خاصة في مصر ثمنا باهظا لأنه لم يراع طبيعة المجتمعات حينها ولا ردّة فعل المنظومة العالمية ولا توحش الدولة العميقة وخاصة الأداة العسكرية.
كذلك كان الأمر في تونس، حيث قفز الإسلاميون إلى السلطة مستفيدين من التعاطف الكبير الذي كان يحظى به منتسبو الحركة بعد سنوات الجمر تحت حكم ابن علي. لكن التجربة التونسية كانت أقل قسوة من التجربة المصرية لأنها لم تتوّج بانقلاب عسكري بسبب الاختلاف الكبير في طبيعة النظام السياسي وفي الوزن الاستراتيجي للدولة وفي طبيعة المجتمع كذلك.
ما تطرحه المرحلة القادمة من تاريخ تونس على الحركة الإسلامية من تحديات سيشكل امتحانا فاصلا وتجربة مصيرية ستحدد مستقبل التيار الإسلامي برمّته.
نجح
الاسلاميون في اكتساح الانتخابات التشريعية التونسية في دورتها الأولى سنة 2014 بفارق كبير مع منافسيهم لكن هذا النجاح عرف تراجعا كبيرا خلال الانتخابات الأخيرة لا في عدد المقاعد التي فازت بها حركة "النهضة" في البرلمان فقط بل في العدد الإجمالي للخزان الانتخابي أساسا.
عرفت الحركة انتكاسة كبيرة في الآداء بسبب تحالفها مع أحزاب النظام القديم وقد برّرت ذلك لقواعدها بأنّه تكتيك عبقري للقيادة لكنها اكتشفت بعد هزيمة مرشحها في الانتخابات الرئاسية أن بوصلة الثورة لا تزال بوصلة ثابتة. أدركت الحركة كذلك أن رصيدها النضالي وسرديات أيام الجمر لم تعد كافية لإقناع الناخبين بالتصويت لمرشحيهم خاصة بعد كل الخطوات التي اتخذتها واعتبرها أهل تونس خيانة للثورة وتحالفا مع النظام القديم.
اليوم تعيش التجربة الإسلامية في تونس لحظة حرجة من تاريخها بعد أن تبخّر خزان التعاطف الشعبي وأصبحت مطالبَة حتى من طرف قواعدها بأن تكون أكثر صرامة في التعامل مع القضايا الحارقة مثل محاربة الفساد والقطع مع النظام القديم. صارت الحركة مطالبة أيضا بتحقيق نتائج على الأرض بعد أن ظهرت قوى ثورية جديدة أصبحت تنازعها مكانتها على الساحة السياسية كائتلاف الكرامة أو التيار الديمقراطي مثلا.
لم تنجح الحركة كذلك في تجديد هياكلها، حيث مازال الشيخ والجماعة المحيطة به يسيطرون على مقاليد الحكم داخل التنظيم في حين تزخر "النهضة" بطاقات شابة يمكنها أن تتفاعل مع الواقع التونسي بشكل أكثر ليونة وتحررا من أثقال تاريخ التجربة الإسلامية. هذا الوضع يضاعف من الضغوطات على الأداء السياسي للحركة ويهدد مستقبلها بشكل قد يؤدي بها إلى مصير مشابه لأحزاب أخرى تأسست على زعامة الفرد وسطوة الحلقة الضيقة المحيطة به.
إن ما تطرحه المرحلة القادمة من تاريخ تونس على الحركة الإسلامية من تحديات سيشكل امتحانا فاصلا وتجربة مصيرية ستحدد مستقبل التيار الإسلامي برمّته. لن تستطيع "النهضة" مستقبلا الاكتفاء بدور خصومها السياسيين في شيطنتها رصيدا معنويا لإقناع قواعدها بل إنها مُكرهة على تحقيق فعل سياسي حقيقي يتماهى مع مطالب الثورة التونسية وشعاراتها الاجتماعية والاقتصادية وإلا فإنها ستلاقي مصير بقية الأحزاب التي اندثرت وتبخرت بعد أن كانت يوما علمًا من نار.