دعا معاذُ الخطيب الأسدَ إلى مناظرة تلفزيونية في السنة الثالثة من الثورة، ولم يقبل الأسد بمناظرته، فهو في حال قبوله سيسقط حتما، فقبوله يعني أنه قد تنازل عن رتبة الربوبية التي جهد والده في الحصول عليها، ونزل إلى الأرض وخضع لقانون الجاذبية الأرضية. كيف سينزل من قمة الشجرة التي صعد إليها بطائرة أبيه الحربية؟ لو ذكر الخطيب إحدى خطايا أسرة الأسد لحطّمه تحطيما.
طار ذكر المناظرات
التونسية بين المرشحين للرئاسة، التي أبهجت الشعوب
العربية، وبعثت فيها الأمل، وفوجئت الأوساط السياسية بتصدر قيس سعيّد الدور الأول في
الانتخابات، وتفوقه على الزعماء المرزوقي والشاهد ومورو. وذكّرتنا مناظرات تونس بمناظرة عبد المنعم أبو الفتوح وصبّاحي المنسيّة. لم يقبل السيسي مناظرة خصمه ذي الوجه الباسم، حمدين صباحي، واكتفى بتكليفه بلعب دور محجوب في حضرة المحترم لنجيب محفوظ، فرضيَ وحجب عيوب السيسي، وأدى عنه ذلك الدور، وترك السيسي يدخل على أم الدنيا، وخرج في الشوارع يلعب مع أصحابه عشرتين طاولة!
وفي يقيننا أنَّ السيسي سيخسر أي مناظرة بينه وبين أي مواطن مصري، فهو "عيي"، وبتعبير محمد علي "متخلف عقليا وقزعة"، وكان قد نجح في جرّ السيسي إلى مناظرة غير مباشرة على الهواء، في "مؤتمر مكافحة محمد علي" الذي أطلق عليه اسم مؤتمر الشباب، والذي استمر تسع ساعات، فانتشرت صور محمد كأنه منافس على
الرئاسة. فمثل محمد علي مثل من صب ماء في حجر عقرب فأخرجه من جحره. فالجنرالات ضعفاء في الخطاب والمنطق والمجادلة، وهم قزعة. وكان المنصف المرزوقي قد طلب مناظرة السبسي فرفضها، وهو يعلم أنه ليس ندّا له، وربح الرئاسة، وأغلب التحليلات تذهب إلى أن فوز السبسي بالرئاسة كان بالمال السياسي الإماراتي ومعاونة الدولة العميقة، وبرم حزب النهضة بالترويكا ومشاكلها.
أهل الذكر السياسي يتغنون بديمقراطية أمريكا، التي انطلقت فيها أول مناظرة مبثوثة عبر التلفاز بين مرشحين للرئاسة سنة 1960، ويقدر عدد المشاهدين آنذاك بـ60 مليون مشاهد، ثم توقفت بعد ذلك المناظرات قرابة عشرين سنة، وكانت بين المرشح الديمقراطي جون كينيدي ومنافسه الجمهوري ريتشارد نيكسون.
يزعم هذا المقال أنَّ مرويات التاريخ الإسلامي تزخر بالحوارات والمناظرات، بل إنَّ الكينونة بدأت بالحوار بين الله والملائكة، وكانت الملائكة "تطمح" إلى أن يكون الخليفة منها: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، وبين الله وإبليس. وكان الحوار تشريفا لمخلوقاته وتعليما، وفي القرآن حوارات بين الله وبين الأنبياء، وبين الله وبين خلقه. وفي الحوار بين الخالق والمخلوق "المعارض" إبليس، طلب الشيطان من الخالق طلبا غريبا: "قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ".
وللمناظرة أسماء وطبقات مثل: مساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يقف، وبالرجاز، والمجادلة، والمحاورة، والأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور.
وأصل المنافرة أَنَّ الرجلَيْن من الْعَرَب كَانَا يحتكمان فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَى من عرف بالرياسة وَالْفضل والصدق، فَيَقُولَانِ لَهُ أَي نفرينا أفضل؟ فَإِذا فضل أَحدهمَا الآخر، فالمغلوب منفور وَالْغَالِب نافر. ونافره ينفره بِالضَّمِّ لَا غير. قَالَ الْأَعْشَى يمدح عَامر بن الطُّفَيْل فِي منافرة عَلْقَمَة بن علاثة إِلَى هرم بن سِنَان المري:
بانَ الذِي فيهِ تَمارَيْتمُا وَاعْتَرَفَ المَنْفُورُ للِنَّافرِ
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة من هذا الجنس، لا سيما في مخاطبات الأنبياء صلوات الله عليهم للكفار، والرد عليهم. وتكتظ قصص الأنبياء بالمناظرات بينهم وبين الخصوم، مثل مناظرات النبي نوح عليه السلام وقومه، والنبي ابراهيم عليه السلام والنمرود، وموسى عليه السلام والفرعون، وتخبرنا قصص العرب، وهي ليست سوى قصص مناظرات، آلاف الأخبار المسجلة في المصنفات، وما كتبت الأمثال العربية إلا حصائل مناظرات ومحاكمات عقلية. وللمناظرات أسماء ورتب وطبقات، وكان أكثرها شعرا، ومنها المنافرة بين أمية بن عبد شمس وهاشم بن عبد مناف، وكان دعاه إلى المنافرة، فقال هاشم:
إنّي أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، ننحرها بمكة أو الجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضي أميّة، وجعلا بينهما الخزاعىّ الكاهن "حكما"، وخرجا إليه ومعهما جماعة من قومهما فقالوا: نخبئ له خبيئا (حزورة) فإن أصابه تحاكمنا إليه، وإن لم يصبه تحاكمنا إلى غيره، فوجدا أبا همهمة (اسم شخص) وكان معهم أطباق جمجمة، فأمسكها معه، ثم أتوا الكاهن فأناخوا ببابه وكان منزله بعسفان، فقالوا: إنا قد خبأنا لك خبيئا فأنبئنا عنه. قال: أحلف بالضّوء والظلمه، وما بتهامة من تهمه، وما بنجد من أكمه، لقد خبأتم لي أطباق جمجمه، مع الفلندح أبي همهمه. فقالوا: صدقت. احكم بين هاشم بن عبد مناف وبين أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف أيّهما أشرف بيتا ونفسا، قال: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أميّة إلى المآثر، أوّلا منه وآخر؛ فأخذ هاشم الإبل ونحرها وأطعمها من حضر، وخرج أميّة إلى الشام فأقام بها عشر سنين؛ فيقال: إنها أوّل عداوة وقعت بين بني هاشم وبين بني أميّة.
ونجد عشرات المناظرات في أول الصدع بالدعوة بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين المشركين، أشهرها التي كادت أن تنتهي بالمباهلة بين النبي عليه الصلاة السلام وبين وفد نجران، وهي أعلى درجات المناظرة كما ترويها كتب السيرة: فَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَتَصَادَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَاقِبِ: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُمْ أَنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَئِنْ لَاعَنْتُمُوهُ إِنَّهُ لَاسْتِئْصَالُكُمْ وَمَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَتَّبِعُوهْ وَأَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ فَوَادِعُوهُ وَارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ..
ومنها مناظرة بعثة المصدقين ووفد التميمين (على الهواء مباشرة) في المسجد النبوي؛ تذكرها كل كتب السيرة بهذه الصيغة: وَخَلَا الْوَفْدُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَقَالَ قَائِلٌ: تَعْلَمُنّ وَاَللهِ أَنّ هَذَا الرّجُلَ مُؤَيّدٌ مَصْنُوعٌ لَهُ، وَاَللهِ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُمْ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَلَهُمْ أَحْلَمُ مِنّا"..
ومنها مناظرة النجاشي ووفد المسلمين ووفد قريش، ومن الأمثلة الشهيرة على مناظرات الملوك مفاوضة الحسين بن عليّ رضي الله عنهما ومعاوية بن أبي سفيان في أمر ولده يزيد، وذاك أن معاوية قال للحسين: أما أمّك فاطمة فإنها خير من أمه، وبنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير من امرأة من كلب، وأما حبّي يزيد فإني لو أعطيت به مثلك ملء الغوطة لما رضيت، وأما أبوك وأبوه فإنهما تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك. وهذا كلام من معاوية كلما أمررته بفكري (والكلام لابن الأثير) عجبت من سداده، فضلا عن بلاغته وفصاحته، فإن معاوية علم ما لعلي رضي الله عنه من السّبق إلى الإسلام والأثر فيه، وما عنده من فضيلة العلم، فلم يعرض في المنافرة إلى شيء من ذلك، ولم يقل أيضا: إن الله أعطاني الدنيا ونزعها منكم؛ لأن هذا لا فضل فيه، إذ الدنيا ينالها البر والفاجر، وإنما صانع عن ذلك كله بقوله: "إن أباك وأباه تحاكما إلى الله، فحكم لأبيه على أبيك"، وهذا قول إيهامي يوهم شبهة من الحق. وإذا شاء من شاء أن ينافر خصمه، ويستدرجه إلى الصمت عن الجواب، فليقل هكذا".
وأشهر المناظرات وأطولها هي مناظرة الإمام بن حنبل وطالت إحداها ثلاثة أيا،م يناظر فيها علماء الخلافة في محنة خلق القرآن، وقد استمرت المناظرة شهورا، حتى إنه غلب خمسة خلفاء. وقد كانت محنته مع الخليفة الخامس هي في السراء لا في الضراء، وكان يحاول إقناعه بتعليم ولده فيرفض.
وتزخر كتب السير الشعبية بالمناظرات الشعرية بين المتبارزين، وكتب التاريخ بالمناظرات العقائدية والفقهية، وبفصول وأبواب عناوينها: الأجوبة المفحمة، والأجوبة المسكتة.. ويورد كتاب ألف ليلة وليلة مناظرة طويلة بين الجارية تودد وبين علماء الخليفة فتسبقهم جميعا.
إن الأسد والسيسي يدركان أنهما غير قادرين على مواجهة المنافسين بالحجة والعقل والصندوق الانتخابي، فيقابلان المناظرة بالتزوير والتضليل الإعلامي والبراميل و"رابعة".. رابعة وأمثالها هي طريقة الطغاة في المناظرة والمحاورة وهمسات الليل.