قيس سعيد، اسم مغمور، لا يعرفه سوى طلبته وعدد قليل من نشطاء المجتمع المدني، فجأة تحول الرجل إلى عنوان مرحلة بعد أن وضعته الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية في طليعة المرشحين.
أستاذ مساعد في القانون الدستوري تقاعد عن العمل، وهو حاليا في الثانية والستين من العمر. يحظى بتقدير خاص من قبل أساتذته وطلابه، ولم يدع نضالا سابقا ضد الدكتاتورية، ولم يظهر للعموم إلا بعد الثورة حين تطوع لمساعدة أستاذه عبد الفتاح عمر؛ الذي تولى بتاريخ 18 شباط/ فبراير 2011 رئاسة لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة، وهي المهمة التي ربما تسببت بوفاته على إثر الحملة الشرسة التي تعرض لها خلال تلك المرحلة الصعبة.
عرف التونسيون قيس سعيد من أسلوبه في الحديث.. يتكلم بلغة عربية قحة، وتتوالى الكلمات والمفردات من فمه بنسق سريع وبإيقاع واحد. فجأة أصبح هذا الرجل المستقيم القامة؛ المرشح الأقرب ليكون الرئيس الثاني لتونس المنتخب مباشرة من قبل الشعب. ذهل الجميع وتساءلوا: من هو؟ وكيف حصل ذلك؟ وما الذي سيحدث عندما يصبح الأمر حقيقة؟
ذهل الجميع وتساءلوا: من هو؟ وكيف حصل ذلك؟ وما الذي سيحدث عندما يصبح الأمر حقيقة؟
هذا الرجل مختلف عن الكثيرين، قد تختلف معه في الفكر أو في
السياسة، لكن عندما يتم التعرف عليه عن قرب لا يستطيع السامع أو المحاور النزيه إلا أن يحترمه، ويتيقن من حبه لوطنه وحرصه على أن يكون قريبا من الشعب، وناقلا أمينا لطموحاته ومطالبه، حسبما يؤكده لجمهوره. لهذا صدقه الكثير من المواطنين، ومنحوه ثقتهم، وراهنوا عليه في الجولة الأولى، وقدموه على منافسين له من الحجم الثقيل، بمن في ذلك الذين سبقوه في النضال، وواجهوا الدكتاتورية بشجاعة، وتعرضوا للتنكيل والمحاكمات الظالمة، وعرفهم الشعب والعالم، ونجح بعضهم في فرض وجودهم داخل عالم السياسة؛ مع ذلك لم ينجحوا في الوصول إلى عموم المواطنين، وفشلوا بالخصوص في استقطاب الشباب منهم.
مع قيس سعيد تجد نفسك من جديد منغمسا في أجواء ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر- 14 كانون الثاني/ يناير 2011. تلك الأجواء التي تم الإجهاز عليها وتحويل وجهتها بسرعة عجيبة.. كانت مرحلة قصيرة من عمر المشهد التونسي اعتبرها سعيد بداية الثورة الثقافية التي تجسدت في سلوك التونسيين وفي أحلامهم الجميلة، لكن سرعان ما حصل الانحراف الخطير، وتم تحويل الرغبة الشعبية في تصحيح المسارات الكبرى إلى حركة مطلبية عشوائية؛ تمحورت ولا تزال حول الزيادة في الأجور والتحصن وراء المطالب الفئوية.
لهذا عندما تحاوره يعيدك إلى لحظات البداية، بدءا من شعار حملته "الشعب يريد"، وصولا إلى إيمانه بضرورة مراجعة النظام التمثيلي للمواطنين. لا يدعو الرجل إلى حل الأحزاب، لكنه يعتقد بأنها تتجه نحو استنفاد دورها، سواء في تونس أو في العالم. كما يعتقد بأن هذا التغيير في جزء من النظام السياسي هو الذي سيؤدي إلى مشاركة ملموسة ومباشرة للمواطنين في سياق تأسيس الديمقراطية المحلية.
ارتبكت المنظومة التي حكمت البلاد بعد الثورة، وشنت عليه حملة شرسة. اتهموه بكونه فوضويا لمجرد دعوته إلى انتخابات برلمانية جديدة مختلفة في آلياتها وأهدافها، كما اتهموه بكونه سلفيا
ارتبكت المنظومة التي حكمت البلاد بعد الثورة، وشنت عليه حملة شرسة. اتهموه بكونه فوضويا لمجرد دعوته إلى انتخابات برلمانية جديدة مختلفة في آلياتها وأهدافها، كما اتهموه بكونه سلفيا بسبب اعتراضه على مسألة المساواة في الإرث التي دعا لها الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، وذلك رغم اختلافه الجذري مع السلفيين. يعترف بكونه محافظا على الصعيد الديني، لكن الفرق كبير بين المحافظة والسلفية. وقالوا بكونه
مدعوما من قبل حركة النهضة، رغم اختلافه معها وانتقاده لها في أكثر من مناسبة، والدليل أن أغلبية أنصار الحركة صوتت للشيخ مورو بسبب عدم ثقتهم في سعيد.
أصبح هذا المرشح المستقل الذي
ليس وراءه حزب أو كتلة مالية "العدو الأول المنظومة"، رغم عدم معرفتها به. لكن من الصحيح أنه يتحمل جزءا من المسؤولية في ما يتعلق بإثارة كل هذه الشكوك بسبب الغموض الذي يلفه، وعدم مواجهة هذا الكم الهائل من الاتهامات والأسئلة الموجهة له.
تساءل ضاحكا: كيف أكون سلفيا ومعاديا للجمهورية وقيمها وأنا شديد الحرص على احترام القانون وتطبيق الدستور؟ وأكد على كونه ابن الدولة الوطنية، ومدافعا عن مؤسساتها، وفي مقدمتها المؤسستان العسكرية والأمنية. لا يؤمن بالفوضى أو القطيعة، ويؤكد على كونه إصلاحيا وليس ثوريا بالمعنى العائم الذي يحتمل الانقلاب على الدستور؛ قائلا في هذا السياق: "كيف أنقلب على الدستور وأنا
أدرّس القانون الدستوري، وأعلم بأن رئيس الجمهورية يستمد شرعيته من الدستور الذي يضبط مهامه ويحدد صلاحياته؟
يتحمل جزءا من المسؤولية في ما يتعلق بإثارة كل هذه الشكوك بسبب الغموض الذي يلفه، وعدم مواجهة هذا الكم الهائل من الاتهامات والأسئلة الموجهة له
أما عن كونه سلفيا، فقد ابتسم عد سماعه هذه التهمة قائلا لي: "هل تعلم بأن جدي كان صديقا للشهيد فرحات حشاد زعيم الحركة النقابية الذي اغتاله الاستعمار الفرنسي؟". وأضاف أيضا للتاريخ؛ أن والده أخفى في بيته المحامية التونسية اليهودية والمناضلة النسوية جيزيل حليمي التي دافعت بقوة على عديد المناضلين والوطنيين، سواء في تونس أو في الجزائر؟
خلافا لما يقال، الرجل ليس خطيرا، وإنما أهميته تكمن في القيم التي يحملها، وفي الوطنية التي يشهد بها الكثير ممن عرفوه عن قرب. واليوم، وهو يستعد لدخول قصر قرطاج
إذا ما فاز، فسيكون من نتائج ذلك أن سيستأنف التونسيون نقاشهم من جديد حول مستقبل الثورة وآلياتها، لكن هذه المرة بعيدا عن إرباك الدولة أو إدخال البلاد في مواجهة مع العالم، بما في ذلك
الجار الأوروبي، فيما يؤكد سعيد بأن الدبلوماسية التونسية لن تشهد تغييرا في جوهرها. فهو مع الاستمرارية، لكن ضمن المحافظة على السيادة وحماية المصالح الوطنية.
مرحلة جديدة في رحلة تونس نحو تصحيح التاريخ.