شعب تونس الذي فاجأنا في مستهل عام 2011 بتمرده على الصمت وثورته المدنية ضد حكم الطاغية، وهو ما أشعل الأمل حينذاك في قلوب الشعوب العربية، يظهر لنا اليوم في عام 2019 أن منبع حيويته لم ينقطع بعد، وأنه لا يزال يتقدم في طريق تحقيق الذات واستخراج قوى الشعب العميقة التي حجبتها دهور الاستبداد والفساد.
بعد انتكاسة نسبية في السنوات الخمس الأخيرة، تمثلت في تولي أحد أركان النظام السابق، القائد السبسي، رئاسة الدولة، جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة مؤشراً على أن الشعب التونسي لا يزال يمسك بزمام المبادرة، وأن الانتكاسات التكتيكية يمكن احتواؤها وتجاوزها ما لم يُمس المبدأ الرئيس؛ وهو أن الشعب مصدر السلطات وأن صندوق الاقتراع هو الحكم بين الناس.
لكن المفاجأة الأهم في نتائج الانتخابات التونسية لم تتمثل في تأكيد انحسار هيمنة تيار النظام السابق، بل تمثلت في خسارة التيار الإسلامي، ممثلاً بمرشح حزب النهضة عبد الفتاح مورو، وهو ما أعطى درساً يستحق التأمل بأن البديل عن الأنظمة الاستبدادية الراهنة لا يشترط أن يكون بالضرورة الإسلاميين.
المفاجأة الأهم في نتائج الانتخابات التونسية لم تتمثل في تأكيد انحسار هيمنة تيار النظام السابق، بل تمثلت في خسارة التيار الإسلامي
عبد الفتاح مورو في مستواه الشخصي هو رجل متفتح فكرياً وذو أفق إنساني، لكن أحد دروس خسارته أن الأهلية الدعوية لا تستدعي بالضرورة الأهلية السياسية، وأن ميادين الحياة المتعددة يجب أن تقاد بالخبرة والتخصص والتفريق بين مقتضيات كل ميدان، وليس بالمنهج الشمولي الذي يفترض أن لديه إجابات تفصيليةً لكل قضايا الحياة المعقدة.
لعل أحد أظهر مشكلات
الإسلاميين هي أنهم يمنحون مساحةً كبيرةً في رؤاهم ومناهجهم التربوية للهوية وبناء سمات الشخصية المنتمية إليهم، وقد كان المبرر التاريخي لهذا التوجه هو شعورهم بحالة الاغتراب، والرغبة في خلق بيئة دافئة يشعر المنتمون في داخلها بحميمية الروابط الأخوية وقوة العصبية في مواجهة محاولات الاقتلاع. لكن هذا التوجه قاد إلى نتائج عكسية، إذ عزز الانفصال بين
شخصية الإسلاميين وبين شخصية المجتمع العامة بفطرتها وعفويتها، وأعاق تفاعلهم الطبيعي مع المجتمع، فصارت شخصية الإسلامي معروفةً بين الناس بمغايرة مظهرها وطريقة حديثها وأولويات اهتمامها بالسمت العام للمجتمع؛ أكثر مما هي معروفة ببرامجها الإصلاحية ونضالها في سبيل العدالة والحريات.
في تجربة حركة حماس في قطاع غزة على سبيل المثال، وبالرغم من أن هذه الحركة تمثل تياراً ذا ثقل جماهيري وسياسي وسلطوي داخل المجتمع، فإن من السهل رصد فجوة بين السمت العام للمنتمين للحركة وبين السمت العام للمجتمع حتى اللحظة، فالمنتمي لحركة حماس غالباً ما يعرف بين الناس بمظهره وطريقة حديثه المنضبطة، في مقابل طريقة حديث الناس العفوية، والمصطلحات التي لا يتعامل بها الناس عموماً مثل "الإخوة، أخي الكريم..".
أحد أظهر مشكلات الإسلاميين هي أنهم يمنحون مساحةً كبيرةً في رؤاهم ومناهجهم التربوية للهوية وبناء سمات الشخصية المنتمية إليهم
قصدت مثال حركة حماس، لأن هذه الحركة ذات فاعلية جماهيرية مشهود لها، وهي قد نجحت بالوصول إلى السلطة والمحافظة عليها، رغم أن التمسك بالسلطة ليس هو المقياس الوحيد لنجاح التجربة. ورغم هذه الفاعلية التي تتسم بها حركة حماس، إلا أنها لم تتخلص بعد من الفجوة المعوِّقة بين شخصيتها والشخصية العامة للمجتمع، ومن باب أولى أن تكون هذه المشكلة في تجارب الإسلاميين في البلدان الأخرى أشد وضوحاً.
الأقدر على النجاح هو الأكثر شبهاً بشعبه، لا أقصد بهذا التخلي عن الرسالة الإصلاحية للجماعة والتماهي مع واقع المجتمع، بل أن تتمدد الرسالة الإصلاحية طبيعياً في المجتمع من خلال شروطه الثقافية، لا أن تسعى إلى إنشاء كيان مواز يعلي شعور الناس بالخطر على هويتهم وذاتهم؛ وينفرهم نفسياً من التواصل بسبب اختلاف اللغة الثقافية.
في القرآن هناك مثال مؤمن آل فرعون: "يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى? وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ".. قوة هذا المثال أن هذا الرجل مارس دوره الإصلاحي من داخل المنظومة وليس عبر إنشاء منظومة موازية لذلك كان يتحدث إليهم بصيغة ضمير المتكلم "فمن ينصرنا.."، لذلك كان هذا الرجل أقدر على إيصال صوته.
حين يحكم المرء باسم
الأيديولوجيا يضعف حضور البرنامج الإصلاحي، حتى وإن كان الأشخاص إصلاحيين؛ لأن الأيديولوجيا بطبيعتها تثير التعصب لها وتحمي المتحصنين بعباءتها، فينتخب الناس وفق ولاءاتهم أكثر مما ينتخبون وفق قناعاتهم بالبرامج، وإذا فشل الأيديولوجي تغاضت جماعته عن فشله وسعت إلى تبريره خوفاً من استغلال الخصوم، لذلك فإن التنافس على أساس أيديولوجي يضعف قوى المجتمع الإصلاحية ويخلق حدةً استقطابيةً في التنافس على السلطة.
الأزمات التي عصفت بالعالم العربي في السنوات الأخيرة تقدم درساً مهماً للإسلاميين؛ يمكن أن يثري تجربتهم لو أنهم أحسنوا الاستفادة من هذا الدرس، وهو أن عليهم التحرر من البنى التقليدية التي أثبتت فشلها
أهمية الزلزال التونسي الجديد أنه يضعف من حضور الأيديولوجيا في إقناع الناس، ويفسح المجال لقوى الشعب المباشرة أن
تتقدم وتتنافس، وهذا من شأنه أن يفرز قيادات أكثر أصالةً وأقل ميوعةً؛ لأن الأفراد والأحزاب الذين ينتجهم المجتمع مباشرةً يكونون أكثر حرصاً على التصالح مع هوية المجتمع ومع برامجهم التي وعدوا الناس بها. وهم يستمدون قوتهم من الناخب مباشرةً، بينما الأحزاب الأيديولوجية تقيدها تعقيدات حسابات البقاء، ويستند فيها القائد إلى ولاء عناصره، وقد يصيبها غرور القوة فتضعف فاعليتها السياسية.
إن الأزمات التي عصفت بالعالم العربي في السنوات الأخيرة تقدم درساً مهماً للإسلاميين؛ يمكن أن يثري تجربتهم لو أنهم أحسنوا الاستفادة من هذا الدرس، وهو أن عليهم التحرر من البنى التقليدية التي أثبتت فشلها واستنزفت الموارد والأزمان في الحفاظ على كياناتها البيروقراطية دون فاعلية، وعليهم أن يفسحوا المجال لنبض الشعب أن يعبر عن ذاته مباشرةً، وأن يتصالحوا مع هذا النبض ليس بمنطق الهيمنة أو الوصاية، بل بمنطق المسؤولية الأخلاقية؛ عبر مشاركة الناس حياتهم الطبيعية وتقديم رؤاهم وبرامجهم العملية لتحقيق العدالة، وتعزيز قوة المجتمع المدني من خلال شروط المجتمع ذاته، وليس عبر إنشاء مجتمعات موازية.