رغم مضي أربعة عشر قرنا على ظهور الرسالة المحمدية، مبشرة بالإسلام خاتم الأديان السماوية، إلا أن الدراسات وجهود الباحثين، لم تتوقف عن سبر أغوار هذا الدين الحنيف.
لا يختلف الباحثون في شؤون الإسلام من غير العرب والمسلمين، على أن
الحج لا يزال يشكل لغزا مبهرا وكبيرا أمامهم، يغريهم بالمزيد من البحث والتعمق، لا سيما في العقود الأخيرة، مع تقدم تقنيات الصوت والصورة والتواصل، ليشاهدوا هذا المشهد الجليل لوقوف أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، من مختلف أرجاء المعمورة على صعيد عرفات في زي موحد، شاخصة أبصارهم وعقولهم.
هل هي مناسك وثنية؟
السؤال الذي اعتاد أن يلقيه أصحاب الديانات الأخرى، اعتقادا منهم أنه السؤال الذي ليس له مرد، ويطعن في عقيدة التوحيد؛ التي بُني عليها الإسلام، ويفخر بها المسلمون: ألا تلاحظ أيها المسلم أن مناسك الحج عندكم هي وثنية صريحة؟!
ذلك البناء الحجري الذي تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله، والهرولة بين الصفا والمروة، وتقبيل الحجر الأسود، وثوب الإحرام الذي تلبسونه على اللحم.. كلها شعائر مرتبطة بالوثنيات، كما تدعون؟
الكعبة والحجر الأسود:
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: عندما يتعبد المسلم بتقديس الكعبة، والطواف حولها، هل يدعو الكعبة أن ترزقه، أو تشفيه، أو تهديه.. إلخ؟ إن الكعبة لا تستمد قدسيتها من الأحجار التي صنعتها، ولكن من الله؛ الذي أمر ببنائها، وبأداء تلك الشعائر والأركان، "وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق" (الحج: 29).. ولو أن المسلمين يعبدون الأحجار لعبدوا أي حجر، ولكن يعظمون حجرا، بأمر الله، ويهينون حجرا آخر، بأمر الله أيضا، فيعظمون الكعبة والحجر الأسود هنا، ويلقون بالأحجار، في جمرة العقبة الكبرى والوسطى والصغرى هناك، فالتعظيم هنا: واضح وجلي، لا لبس فيه، هو لصاحب الأمر والنهى سبحانه وتعالى!
لقد اشتهرت مقولة الفاروق "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه في تقبيله للحجر الأسود: "لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك، ما قبلتك". ففي قول الفاروق، التسليم لله في أمور الدين، وهو أساس التوحيد، والقاعدة العظيمة في حسن الاتباع لرسوله الأمين، ولو لم يعلم الحكمة فيهز من هنا يظهر أن تقبيل الحجر الأسود ليس على سبيل التعظيم، وإنّما هو على سبيل الحبّ، كما يقبل الإنسان كل شيء يحبه؛ أهله، وأبناءه، وأشياءه الخاصة. فلو كان التقبيل دليلا على التعظيم، لاستلزم أن الجميع يعبد ما يقبل، فعندما نقبل ذلك الحجر الأسود، الذي حمله نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في ثوبه، وقبله، فنحن لا نتجه بمناسك
العبادة نحو الحجارة ذاتها، وإنما نحو المعاني العميقة والرموز والذكريات، التي تحملها!
الطواف:
هنالك سؤال دائما ما يتبادر إلى الأذهان: لم فرض الله سبحانه وتعالى، الطواف حول الكعبة عكس عقارب الساعة، وليس مع عقارب الساعة، أو بطريقة عشوائية غير متزامنة؟
لقد ذكر مختصون في علم "الطبوغرافيا" أن الموقع الجغرافي لمكة المكرمة، يقع في منتصف الكرة الأرضية، أي ما يعني أنها واقعة في المركز تماما، لكن الآن ما تأثير ذلك على جسم الإنسان وفوائده؟
من المعروف، أن لكل شيء في هذا الكون، مركزا يتأثر به، فالذرة لها مركز، ودوران المجرات والكواكب، لها مركز تستند عليه، وكذلك الطواف حول الكعبة، الذي يبدأ بالدوران بداية من الحجر الأسود والانتهاء إليه.
أما بالنسبة للسبب الكامن وراء الطواف عكس عقارب الساعة، فيعود إلى أن القلب يقع في الجهة اليسرى، من جسم الإنسان، وعند الطواف سيجد المسلم، أن قلبه أقرب ما يكون للكعبة. أيضا في الطواف مع هذا الاتجاه، نجد أن سوائل الجسم جميعها تندفع بشكل أقوى، ومنها الدم الذي يصل إلى جميع أجزاء الجسم، عند الطواف، ما يقي الجسم من الكثير من الأمراض، ويحفظ توازنه، ويقيه من التعب والإجهاد السريع.
الطواف عكس عقارب الساعة، نفس اتجاه الدوران، الذي تتم به حركة الكون، من أصغر دقائقه لأكبر وحداته، كما أن حركة الكواكب حول الشمس، وحركة جميع الأجرام السماوية والنجوم حول مركز المجرة، وحركة القمر حول الكوكب، وحركة الكواكب حول النجوم، وحركة المجرات حول مركز الكون جميعها، تدور كلها عكس عقارب الساعة.
الطواف هنا يعني روحيا التفاف القلوب حول قدسيَّة الله سبحانه وتعالى، الذي نرى نعمه تفيض علينا، ولا ندرك ذاته!
ثياب الإحرام:
إن ثوب الإحرام الذي يلبسه الحجيج على اللحم، ويُشترط فيه ألا يكون مخيطا؛ هو رمز للخروج من زينة الدنيا، والتجرد التام أمام حضرة الخالق، تماما كما يأتي الإنسان إلى الحياة الدنيا في اللفة، ويخرج منها في لفّة، ويدخل القبر مرة أخرى أيضا في لفّة.
ففي الحفلات الرسمية واللقاءات الهامة، يجب على المرء ارتداء البزات الرسمية لمقابلة الأشخاص المهمين، ولكن لا يوجد شيء يليق بجلالة الله، إلا التجرد وخلع جميع الزينة، لأنه الكبير المتعال، الذي هو أعظم من كل خلائقه، ولا يصلح في الوقوف أمامه إلا التواضع التام والتجرد.. هذا الثوب البسيط، الذي يلبسه الغني والفقير، الصعلوك والملك، يجسد أمام الله كل معاني الأخوة والمساواة، رغم تفاوت المراتب والثروات.. كل عباد الله، يشهده الجمع واقعا عمليا، وتذكِرة مبكرة لمشهد غيبي، لا مناص منه في الآخرة.
عند النظر في الحجاج والمعتمرين مرة بعد أخرى، وقد لبسوا هذا اللباس، فلا تكـاد تفرق بين رئيس ومرؤوس، ولا أمير ولا مأمور، ولا سائد ومسود، ولا مشهور ومغمور، ولا غني وفقير، ليتبين لك بجلاء، بأنه ليست قيمة المرء في وفرة تجارته، ولا في عظيم وجاهته، ولا في اتساع ولايته، وإنما قيمته بالتقوى والعمل الصالح.
السعي بين الصفا والمروة:
فريضة السعي تعتبر اقتداء بالسيدة هاجر، زوجة نبينا إبراهيم، بعد أن تركها زوجها مع ابنها إسماعيل في صحراء مقفرة، لا زرع فيها، ولا ماء، تنفيذا لأمر الله سبحانه وتعالى، وبعد وقت قصير بدأ العطش يأخذ مأخذه، منها ومن رضيعها، وبدأت رحلتها وحيرتها للبحث عن الماء، وراحت تسعى وتهرول بين الجبلين (الصفا والمروة) سبع مرات، وبذلت كل ما تستطيع، وإذ بها تجد الماء "بئر زمزم"؛ قد نبع عند رضيعها، لتنفذ المشيئة الإلهية بإغاثتهما، بعد أن خارت قواها، فجاءت أهمية السعي، ليس كمفهوم السعي على الهرولة، وإنما الغرض منه السعي والتماس العون والرزق والفرج من الله.
الوقوف بعرفة:
ليس الهدف من الوقوف بعرفة؛ وقوف الحجيج في هذا الوادي فقط، خصوصا مع الشمس اللافحة، وإنما الهدف منه؛ هو بذل المزيد من الضراعة، بقلوب مؤمنة خاشعة، وبأيدٍ مرفوعة بالرجاء، وألسنة مشغولة بالدعاء، وآمال صادقة بالقبول.
الوقوف في عرفة بين عدة ملايين يتكلمون بلغات عديدة؛ يقولون الله أكبر، ويتلون القرآن، ويهتفون لبيك اللهم لبيك، ويبكون ويذوبون شوقا وحبا، تجعل الجميع يتبتلون في الدعاء والتلبية، ويتوبون توبة نصوحة، بالإقلاع عن ارتكاب الخطايا والمفاسد، ويعقدون النية على الميلاد من جديد، فيذوب الفرد في الجمع الغفير من الخلق، وتشعر النفوس بمبدأ التقارب والمساواة والتقشف، والبعد عن الترف الممقوت، وتتجسد معاني الفناء والخشوع أمام الإله العظيم، مالك الملك الذي بيده مقاليد كل شيء.
الحج انتقال وارتحال، وإعداد للزاد، واحتمال لمشاق السفر، وتغير الأجواء، وتجرد من متاع الحياة، حتى في الثياب المألوفة، وإقبال على الله بالحس والنفس، والعمل والقول، فيعزم المسلم على الرحيل إلى ربه بنفس مؤمنة، ومشاعر محبة، وذات تائبة، وهمّة معرضة عن الشهوات والملذات، مقبلة على الطاعات والقربات؛ لأنه سيحل ضيفا على ربه عزّ وجلّ، حول بيته الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين.