(1)
ربما لم يختلف المصريون على شيء في عصرهم
الحديث كاختلافهم على توصيف ما حدث في 30 حزيران /يونيو 2013، عندما استخدمت
المظاهرات "المنسّقة" ضد الرئيس الشهيد محمد مرسي من قبل الجيش للانقلاب
على أول وآخر رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر حتى الآن.
ثمة من كان يعتبرها "ثورة" ولا
يزال يعتبرها ثورة، وهؤلاء قسم من الناس ليس من المجدي الرد عليهم أو نقاش وجهة
نظرهم، فهم والعياذ بالله من المصابين بانعدام النظر والبصيرة!
وهناك آخرون، ونحن منهم، يعتبرون أن ما جرى هو نكسة، ارتكبتها وخططت لها "الدولة العميقة" وفي قلبها الجيش بدعم وتمويل إقليمي ومباركة دولية للوصول إلى الانقلاب العسكري.
نكسة استغل فيها الجيش "سذاجة" التيارات المدنية المعارضة لمرسي، وأخطاء الرئيس الذي لم يستطع أن يكون شفافا مع الناس ليخبرهم أنه لا يحكم أصلا حتى تتم محاسبته، ونقمة الجماهير التي لم تشعر بتحسن في حياتها بعد الثورة، فقام بالتخطيط لتشكيل تجمع للناقمين على مرسي من شباب ثورة وناس عاديين، وتيارات سياسية انتهازية، وفلول، وأتباع كنيسة أقنعتهم قياداتهم الدينية بخطر الإخوان عليهم، فاجتمع هؤلاء جميعا لمدة نصف يوم أو أقل، ثم استخدم الجيش هذا الجمع الحاشد بعد يومين للانقلاب على الرئيس المنتخب، وقيادة مسار تدميري لا تزال تعاني منه مصر شعبا وبلدا إلى اليوم، وستبقى تعاني إلى أن يتغير المناخ السياسي في البلاد.
وبين هؤلاء وأولئك، يرى طرف آخر، أن "30
يونيو" كانت ثورة مشروعة، وتحركا شعبيا ديمقراطيا للمطالبة بانتخابات مبكرة،
ولكن الجيش استغلها لتنفيذ انقلابه.
(2)
بالرغم من اختلاف توصيف أحداث "30
يونيو" لدى أصحاب وجهتي النظر الثانية والثالثة أعلاه، فإن كليهما يرى الآن
نتائج هذه الأحداث، ويتفق على أنها نتائج كارثية، حتى أولئك الذين يرون أنها كانت
ثورة شعبية فهم يقرون بأنها انتزعت من "أصحابها" واستغلت لتنفيذ
الانقلاب. المهم أن الطرفين متفقان على النتائج، وإن كانا مختلفين على المقدمات.
(3)
على أهمية وخطورة "30 يونيو" في
التاريخ المصري الحديث، إلا أنها تبقى تاريخا. ومهمة السياسي في أي مكان في العالم
هو دراسة التاريخ للاستفادة منه في المستقبل، و"استغلاله" أحيانا لتشكيل
دافع للانطلاق من الماضي لصناعة مستقبل الأجيال القادمة.
التاريخ أيضا يستخدم في حالات الصراع بين الشعوب لتشكيل "هوية وطنية جامعة" مبنية على التاريخ المشترك، ولكن هذا يحدث عندما يكون التاريخ المقصود خاصا بشعب بمواجهة شعب آخر عدو، أما في الصراعات الداخلية والأهلية فإن استخدام التاريخ كراية وكأحد مكونات الهوية سيؤدي بلا محالة إلى إدامة الصراع الأهلي وإلى منع تشكيل هوية وطنية جامعة.
ومع ذلك، فإن شعوب العالم التي خاضت
صراعات طويلة وأكثر دموية من صراعاتنا الداخلية العربية، توصلت لحلول قابلة
للحياة، وأظن أنها تصلح لجميع شعوب العالم، ويمكن تطبيقها في الحالة المصرية.
(4)
إن الحل "السحري" في منع تحويل
التاريخ لعائق أبدي يحول بين التحرك للمستقبل هو احتفاظ كل طرف بروايته للتاريخ، مهما
كانت هذه الرواية متناقضة مع رواية الأطراف الأخرى.
ليس المطلوب للتوجه للمستقبل أن يتفق من
يرون "30 يونيو" نكسة وكارثة ومن يرونها ثورة على توصيف التاريخ، بل
المهم أن يتفقوا على رؤية للمستقبل.
ولكن هذا الطرح لا يعني بحال الجمع بين
قاتل أو محرض على القتل وبين القتيل، إذ أن الطرفين المعنيين في صناعة مستقبل
المعارضة في مصر يجب أن يتفقا على إبعاد العناصر المتورطة بالعنف، أو بالتحريض على
القتل، فلا يمكن أن يجلس من تورط بالتحريض على الدم على طاولة واحدة مع أولياء هذا
الدم.
(5)
قد يرى البعض هذا الطرح "رومنسيا"
أو غير قابل للتطبيق، ولكن الحقيقة هي أن محاولة فرض أي طرف روايته للتاريخ على
الطرف الآخر هي الرومانسية غير القابلة للتطبيق.
إن تاريخ الشعوب هو جزء من هويتها ولا يمكن مسحه بسهولة، فلا يمكن إقناع من قتل صديقه في أحداث اتهم الإخوان بالتنازل فيها مثل "محمد محمود" أن يؤمن فجأة برواية الإخوان لهذه الأحداث، ولا يمكن أيضا إقناع من رأى أخوه أو أخته تذبح في رابعة والنهضة أن يتفهم رأي من يعتبر 30 يونيو ثورة شعبية.
ولكن، يستطيع الطرفان أن يحتفظا برؤيتهما
المتناقضة حول التاريخ، ويتجها لمستقبل متفق عليه، كما حصل مثلا مع الكاثوليك
والبروتستانت في إيرلندا الشمالية، التي شهدت في تاريخها صراعات وقتلى ودماء أكثر
بعشرات الأضعاف مما شهدته مصر.
(6)
لا يعني إعطاء كل طرف الحق براويته
للتاريخ نسيان الماضي أو التخلي عن مراجعته، بل إن كل طرف مطالب بمراجعة التاريخ
للاستفادة من دروسه، ولقراءة الأحداث قراءة مختلفة عن أحكامه المسبقة.
قد لا توصل
القراءة النقدية للتاريخ رؤية مختلفة تماما عن الأحكام المسبقة لهذا الطرف أو ذاك،
ولكن يفترض أن تؤدي على الأقل لمعرفة مواطن الخلل التي أدت لنتائج غير متوقعة أو
غير مطلوبة لمقدمات كان يعتقد أصحابها أنها ستقود لنتائج إيجابية.
ختاما..
يمكن أن نلخص أزمة المعارضة المصرية في
مواجهة الانقلاب العسكري بجملة واحدة، وهي توقف التاريخ عند هذه المعارضة عند يوم
"30 يونيو"، فيما بدأ التاريخ الحقيقي لقائد الانقلاب العسكري ومن يقفون
وراءه عند هذا اليوم.
تتصارع المعارضة على تفسير أحداث هذا
اليوم، وعلى المقدمات التي قادت له، وعلى مسؤولية كل طرف فيها عن النتائج الكارثية
التي أدى لها هذا اليوم، بينما تصمت هذه الأطراف عن أي محاولة للتحرك للمستقبل بعد
هذا التاريخ.
أما الانقلاب، فقد حقق هدفه من "30
يونيو" بعزل الرئيس المنتخب محمد مرسي رحمه الله، ولا يهمه بعد ذلك ما جرى في
ذلك اليوم وكيف جرى، بل إنه لا يهتم إلا لمراكمة وقائع على الأرض تثبت سلطته وتمنع
معارضيه من التحرك بأي طريقة لمواجهته.
باختصار، تختلف المعارضة على التاريخ
وتنسى المستقبل، بينما نسي قائد الانقلاب العسكري التاريخ ويتحرك لبناء مستقبله
هو، لا مستقبل مصر، ولا يمكن للمعارضة أن تحقق شيئا إلا إذا بدأت بالتركيز على
صراعها المستقبلي مع السلطة بدلا من صراعها التاريخي مع نفسها!
"استشهاد الرئيس" و"خطة الأمل".. أحداث كاشفة (12)
صورة السيسي وصوته: تأويلان من رواية أوسكار وايلد وفيلم الأب الروحي
الشهيد محمد مرسي.. الثوار لهم وجه واحد في روحي!