فرغت تقريبا من كتابة مقالي الأسبوعي ضمن سلسلة "أحداث كاشفة"؛ عن سيناء الحبيبة التي تتجدد كل يوم (في ظل هذا النظام الفاشي) مآسيها التي لا تتوقف، ولكن عند الظهيرة فوجئت بخبر يتداول على صفحات التواصل الاجتماعي حول وفاة الدبلوماسي المكافح "سعادة السفير إبراهيم يسري"، وواصلت رحلة التأكد من الخبر الذي انتشر، وتمنيت أن يكون الخبر مجرد إشاعة كسابقه منذ شهرين.. تمنيت أن يخرج علينا على صفحة الجبهة التي يعد رئيسا شرفيا لها كالمرة الفائتة؛ يبشرنا بأنه بخير وبصحة بعد أن أصابنا الهلع من الخبر المُشاع الماضي. هذه المرة لم تتحقق الرغبات وتوارت التمنيات، وجاءتنا التأكيدات.. لقد رحل شهيد الأمة، الرجل الأمة.
كان شاهدا على تفريط البعض ممن زعموا أنهم زعماء هذا الوطن، وزعموا المحافظة على الوطن وسلامة أراضيه، فتنازلوا عنها واستجدوا الدعاوى والتبريرات، وزعموا المحافظة على مقدرات الوطن وموارده مياهه وغازه؛ ففرطوا فيها بقلب بارد.. باعوا الوطن فانتفض الشهيد لتشهد الدنيا بأسرها، رافعا القضايا مهما تكلفت من رسوم ومتطلبات من جيبه الخاص ومن معاش لا يكفيه، ولكنه أصر ومن على كرسيه المتحرك، يتابع قضايا التفريط، لا يصمت، يقيم الحجة على الجميع.. حافظوا على أوطانكم ممن زعموا الحفاظ عليها وحمايتها، ثم فرطوا أو تنازلوا أو باعوها بثمن بخس..
هذه المرة رحل عنا من علّمنا أصول الكفاح والنضال، واضطلع بوظيفته الكفاحية، لا يفتر عزمه ولا تضعف همته، فبادر بفتوته وجرأته، ومن على كرسيه المتحرك، بفعل الشباب الناهض وهو على أعتاب التسعين.. منذ أيام قليلة حلت ذكرى ميلاده، تألم مناديا عليه وكأنه ينعى نفسه.. يتوقف القلم، يخلي الساحة والمساحة لبيان الجبهة حول رحيل شهيد الأمة.. الرجل الأمة.
* * *
شهيد الأمة
"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا" صدق الله العظيم.
رحل صباح اليوم الاثنين العاشر من حزيران/ يونيو 2019 رمز من رموز الأمة المصرية، وعلم خفّاق من أعلامها، ومجاهد صابر من مجاهديها، امتد نضاله لأكثر من نصف قرن، في عمله الدبلوماسي الرسمي، وفي أروقة المحاكم المحلية والدولية، وفي الشوارع والميادين. رحلة نضاله امتدت طولا، وعرضا، وعمقا، رحلة نضال بدأها الراحل شابا، ثم يافعا، فكهلا، واستمر رغم كل ظروفه الصحية مناضلا إلى آخر نفس في حياته... تنعي الجبهة الوطنية المصرية إلى الأمة المصرية والعربية والإسلامية وكل شرفاء وأحرار العالم؛ رئيسها الشرفي سعادة السفير إبراهيم يسري رحمه الله.
رحل ابن محافظة الشرقية، مركز ههيا، بعد أن احتفل بعيد ميلاده التاسع والثمانين بأيام قليلة، فهو من مواليد حزيران/ يونيو 1930م.
تبوأ السفير إبراهيم يسري منصب سفير مصر بالجزائر، ومساعد وزير الخارجية، ومدير إدارة القانون الدولي والمعاهدات الدولية.
في عهد الرئيس المخلوع أسس حملة "لا لبيع الغاز للكيان الصهيوني"، فوقف أمام النظام العميل الذي قرر بيع الغاز المصري للعدو الصهيوني بلا مقابل سوى البقاء في السلطة، وأنصفه القضاء بعد ثورة يناير المجيدة.
كان عضوا في كل الحركات السياسية التي دعت إلى التغيير السلمي، وكان ملهما لكل شباب مصر من مختلف الأجيال.
كان منزله في المعادي مهبط أفئدة العاملين في العمل العام من جميع الاتجاهات، وظل رغم حالة الاستقطاب التي تلت انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013. ورغم موقفه الصريح ضد هذا الانقلاب، ظل رقما يقبل القسمة على جميع المصريين، حتى أن الدولة - وهي تحت حكم الانقلابيين – منحته وسام الجمهورية من الدرجة الأولى، وهو الوسام الذي لم يقبل معالي السفير أن يتسلمه من الرئيس الذي عينه الانقلاب لإدارة المرحلة الانتقالية، ذلك أنه فهم أن منحه الوسام محاولة لتجميل الوجه القبيح للانقلاب العسكري، وكان ذلك لقاء دوره في فريق المفاوضات الذي حرر "طابا".
لقد كان السفير إبراهيم يسري بوصلة الضمير حين شارك في جبهة الضمير، وكان صوت الحق حين نطق في بيان القاهرة، وكان دائما داعية خير ووحدة، يواجه غربان الشر والفرقة.
إن المتابع للشأن العام بإمكانه أن يعلم ما هي الأخطار الاستراتيجية التي تحدق بمصر من خلال متابعة جدول أعمال وكتابات ونشاطات السفير إبراهيم يسري، فحين تأتي أزمة النيل، ستجد له كتابا كاملا يصف الداء والدواء (النيل ومصر وسد النهضة وحروب القرن الأفريقي)، وكتابه "تطور القضاء الجنائي الدولي في ملاحقة الجرائم ضد الإنسانية" فيه فائدة عظمى لكل الدول التي تمر بمرحلة التحول الديمقراطي.
يشهد التاريخ لمعالي السفير أنه كان وطنيا في كل موقع شغله، فحين أراد أهل الحكم أن يسلموا البلد للجيش الأمريكي، وقف في موقعه في الإدارة القانونية بوزارة الخارجية معارضا إقامة قاعدة أمريكية في "راس بناس" منتصف الثمانينيات، وحين ترك الخارجية ظل مصريا وطنيا مقاوما لكل ما يمس السيادة المصرية، مؤمنا إيمانا تاما بالديمقراطية.
لقد كانت رحلته النضالية تتشكل حسب سلم أولويات الوطن، فتراه حينا يبادر برفع دعوى ضد إقامة السور الفولاذي وإغلاق معبر رفح، وحينا يرفع دعوى ضد إغلاق الشوارع المحيطة بمنزل السفير الإسرائيلي في المعادي والسفارة الأمريكية في جاردن سيتي، وكانت دعواه الأخيرة تلك التي طالب فيها بإلغاء التعاقد بين مصر وشركة بريتش بتروليم لاحتكار أكبر حقول الغاز لمدة 20 عاما، وهو العقد الذي يحول مصر إلى مستورد لثروتها الطبيعية.
إن الجبهة الوطنية المصرية تطالب جميع المصريين باقتفاء أثر هذا الرمز العظيم، الذي جمع بين العلم والعمل، فبعلمه شارك في تحرير أرض "طابا" من الاحتلال، ومن خلال عمله كان على رأس مسيرة عمل وطني يقاوم الاستبداد، كما تطالب بنشر سيرته الذاتية التي لم تنشر حتى الآن برغم ما فيها من تاريخ يتجاوز شخص أستاذنا السفير ليكون كتابا يؤرخ لسيرة وطن في مرحلة شعارها تزييف التاريخ.
رحم الله الفارس الشجاع المقدام السفير إبراهيم يسري، وألهم أسرته وتلاميذه وأحبابه صبرا جميلا، وجعل سيرته وتراثه زادا لكل محبي مصر، ولكل من يقاوم الاستبداد.
الجبهة الوطنية المصرية
الاثنين 10 حزيران/ يونيو 2019
* * *
شهيد الأمة أحب الثورة وأهلها، وقدر شبابها، آمن بربيع التغيير الذي هبت وما زالت بعض من نسماته، لا يفتأ عن التبشير به والتأكيد على حلوله وانتصاره، وخاض معركته ضد من فسدوا وزعموا الحفاظ على الوطن؛ وهم يفرطون في مقدراته.. معركته المزدوجة في مواجهة استبداد المستبدين وفساد المفسدين، وحينما سُئل عن "متى تقول الشعوب العربية كلمتها؟"، قال: لقد قالتها في الربيع العربي، وأنا أطمئن الحكام أن الربيع العربي لم يمت، وأطمئن الدولة العميقة أن وجودها مؤقت. هذا يقين راسخ، ربما لا أعيش حتى يتحقق هذا، لكن الربيع العربي نار تحت الرماد، وسيهب.
* متى؟
- سنة أو سنتان، أو عشر سنوات، أو عشرون لكنه قادم لا محالة.
رحلت وبقيت رمزيتك.. قال ربما لا أعيش حتى يتحقق هذا، ولكنه بشّر بيقينه أن هذا سيتحقق.
أقل من 14 عاما مدة الاحتياطي النفطي المصري
الهجوم على السوريين في مصر.. ماذا هناك؟!