لم يكن
قتل محمد مرسي قتلا بطيئا من نظام الاستبداد في مصر موجها ضد شخصه أو جماعته،
ولكنه كان موجها بالأساس ضد القيم التي مثلها، منذ اختياره كأول رئيس منتخب لمصر
حتى انتقاله إلى ربه شهيدا.
قتلته سلطة الاستبداد المدعومة من قوى الثورة المضادة في
الإقليم والعالم، لأنه يمثل قيمة الديمقراطية واختيار الشعب. لقد كان مرسي هو
اللحظة الأكثر ترميزا لانتصار إرادة الشعب على الدولة العميقة لنظام مبارك
والأنظمة الإقليمية، ولذلك فقد أرادوا قتل هذه الرمزية، لأنها تمثل هزيمتهم الأولى
تاريخيا أمام الشعب.
قتلته السلطة المنتشية بخمر القوة لأنه يمثل التحدي
والصمود لقوتها وغطرستها وجبروتها. كان يمكن للرئيس الشهيد أن يعود إلى بيته إذا
وافق على منح الشرعية للانقلاب ورئيسه، وكان يمكن أن يكمل حياته بشكل شبه طبيعي في
منفى اختياري أو في الوطن لو أنهى بتوقيعه صفحة التحول الديمقراطي، ولكنه صمد
وقاوم، وقال في خطابه الأخير قبل اعتقاله إنه مستعد للموت حماية للثورة، وهذا ما حصل
فعلا بعد سبع سنوات من الاعتقال.
كان يمكن للرئيس الشهيد أن يعود إلى بيته إذا وافق على منح الشرعية للانقلاب ورئيسه، وكان يمكن أن يكمل حياته بشكل شبه طبيعي في منفى اختياري أو في الوطن لو أنهى بتوقيعه صفحة التحول الديمقراطي، ولكنه صمد وقاوم
قتلته السلطة القائمة على الغصب والخيانة لأنه الوحيد
الذي يعريها بتمثيله لقيمة "الشرعية". فهو الرئيس الذي يجمع العالم على
أنه الأول والوحيد المنتخب ديمقراطيا بانتخابات حقيقية ونزيهة وشرعية. قد يختلف
الكثيرون على أدائه أو عمله أو حتى الانقلاب عليه، ولكن لا أحد يجرؤ على الطعن بشرعية
انتخابه، ولهذا أيضا ذكر في خطابه الأخير قبل إعلان الانقلاب عليه أن ثمن
"الشرعية" هو حياته، وقد ضحك وسخر الكثيرون من الجهلة لتكراره هذه الكلمة
في الخطاب، ولم يدركوا أن "الشرعية" هي أساس الصراع بين الشعب والسلطة (أي
سلطة). ولهذا السبب الذي تدركه السلطة المغتصبة قتلوه، لينهوا "قميص
عثمان" الذي كان يؤرقهم، حتى وإن كان الرئيس في أضعف حالاته بين جدران السجن
الظالم.
قتلته السلطة التي بنيت على مصالح الأقليات الزبائنية من
ضباط ورجال أعمال وأرستقراطية "محدثة"، لأنه يمثل النقيض لهذه الطبقة،
ولأنه يمثل أبناء "الحراثين" وأبناء الفلاحين، وأبناء صغار العاملين،
لأنه يمثل القرية بأحلامها باتخاذ موقعها الذي تستحقه في مواجهة توحش المدينة،
لأنه يمثل الطبقات الوسطى التي حرمت من حقوقها ودورها لعقود طويلة، ولأنه يمثل
الفقراء المهمشين الذين ارتكبوا "جريمة" الأمل برئيس ينتمي إليهم طبقيا
بجذوره وعائلته وتاريخه.
قتلته السلطة القائمة على الغصب والخيانة لأنه الوحيد الذي يعريها بتمثيله لقيمة "الشرعية". فهو الرئيس الذي يجمع العالم على أنه الأول والوحيد المنتخب ديمقراطيا بانتخابات حقيقية ونزيهة وشرعية
قتلته السلطة التي
يحتفي بها الاحتلال الصهيوني كل يوم،
وتشيد بها اللوبيات الصهيونية وتدافع عنها في واشنطن، لأنه يمثل النقيض لها، ولأنه
الذي تحدث بين شعبه بالقول "
لبيك يا غزة" فيما يتحدث رئيس الانقلاب عن
الصراع العربي الإسرائيلي وكأنه ممثل أجنبي لمنظمة بيئية غربية! ولأنه فتح معبر رفح
أثناء عدوان الاحتلال على غزة عام 2012 وأرسل رئيس وزرائه هشام قنديل ووزير
خارجيته في تظاهرة لوزراء الخارجية العرب والمسلمين، فيما يعجز رئيس الانقلاب عن
إرسال رسالة تأييد للفلسطينيين، بل يضغط عليهم لقبول التنازلات أمام الاحتلال.
قتلته السلطة المعزولة شعبيا،
المدعومة من أنظمة معزولة
شعبيا هي الأخرى، لأنه يمثل النموذج الذي حلمت به شعوب عربية وليس الشعب المصري
فقط، ولأنه الرئيس الوحيد الذي مثل حالة عشق غير مسبوقة من الجماهير تجاه أي زعيم منذ
عقود، ولأنه الرئيس الوحيد الذي استطاع أن يخرج لصلاة الفجر بين أبناء شعبه بـ"جلابيته"
المتواضعة دون حراسة، ولأنه الرئيس الوحيد الذي لهجت ألسنة وقلوب المعتمرين
بالتكبير عندما رأته معتمرا في بيت الله الحرام، ولأنه الرئيس الوحيد الذي يعيش في
شقته مثلنا، ويتحدث مثلنا، وينام بملء عينيه بعد إرهاق يوم عمل مثلنا. أحبه الناس
لأنه "يشبههم" وقتله المستبدون لأنه يعريهم باختلافه عنهم!
قتلته السلطة المعزولة شعبيا، المدعومة من أنظمة معزولة شعبيا هي الأخرى، لأنه يمثل النموذج الذي حلمت به شعوب عربية وليس الشعب المصري فقط
ولأن الشهيد محمد مرسي يمثل كل هذه القيم، فقد اجتمع على
رثائه كل المؤمنين بالثورة وقيمها. رثاه الإسلاميون وغير الإسلاميين، رثاه من أحبه
ومن كرهه، رثاه كل من امتلك رصيدا كافيا من الإنسانية، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا
الذين فقدوا إنسانيتهم تماما.
ثمة رجال قليلون يصنعون حالة يجمع عليها الناس، من اتفق
معهم أو اختلف، رجال تمثل حالتهم تجاوزا للأيديولوجيا والسياسة والصراعات، رجال
يحزن على موتهم غالبية الناس، لأنهم ثوار حقيقيون على الواقع البائس، ولأن الثوار
لهم وجه واحد في روحي وروح الناس!