عنوان الكتاب: أفول الغرب
الكاتب: حسب أوريد، مؤرخ وأكاديمي مغربي
دار النشر: المركز الثقافي العربي، المغرب، 2018
سعى الغرب إلى أن يفهم الآخر، لا من منطلق حوار الحضارات أو مبدأ التعايش، وإنما كان الهدف الأساسي هو التحكم فيه. ولم تتوقف عملية فهم الأخر عند هذا الحد، بل عمل الغرب على إقناع النخبة في الدول الهامشية أو الدول التابعة بهذه المهة، وهو ما سمي بظاهرة الإستشراق، الذي كان المفكر إدوارد سعيد خصص له عملا يبقى مرجعيا في هذا الصدد. ويرى الكاتب المغربي حسن أوريد أن هذه الظاهرة نتج عنها استشراق جديد وهو الذي يقيمه أهل البلاد على ذواتهم، من خلال مرآة الآخر.
قراءة معاكسة
ولكن ماذا لو قام أهل الأطراف، بعكس المعادلة، وقام بنقد الغرب، أو ما يسميه الفيلسوفان، إيان بوروما وأفيشاي مارغاليت، بالإستغراب، الذي يعتبر أنه ردّ فعل على الإستشراق، ورجع صدى لما ينتجه الغرب، ما يكرس اختيار الغرب للمعرفة المنتجة، وحسب الفيلسوفان فإن الاستغراب، لا ينتج سوى صورة مشوهة عن الغرب، فهل يندرج كتاب "أفول الغرب" ضمن باب رد الفعل؟ الجوب حسب الكاتب بالنفي، بل يندرج من رؤية مغايرة لا كرد فعل أو رجع صدى للإستشراق.
"افول الغرب" موضوع الدراسة، هو جديد الكاتب والسياسي المغربي حسن أوريد، فقد سبق أن أصدر مجموعة من الكتب عن "الإسلام السياسي في إيران"، ترجمة، و"الإسلام والغرب والعولمة"، و"مرآة الغرب المنكسرة"، و"الفكر السياسي في إيران" ترجمة من الإنجليزية إلى العربية، و"مأزق الإسلام السياسي"، بالإضافة لعدد من الروايات من أهمها "الحديث والشجن"، و"الموريسكي"، و"صبوة في خريف العمر"، كما أصدر دواوين شعرية أهمها: "يوميات مصطاف"، و"فيروز المحيط"، و"زفرة الموريسكي"، و"صرخة تينهينان".
ويعترف صاحب كتاب "أفول الغرب"، بأن التمكين في الأرض حاليا للغرب، وأن نقده لا يصدر من نظرة معادية، وفي الوقت ذاته، لا يكتب بلغة منبهرة أو أسلوب مستلب، بل يوظف المرجعيات الفكرية والأدبية والقيمية التي أقام عليها الغرب، نهضته وبسط نفوذه على العالم، وينطلق من الدورة الخلدونية، التي تقول إن الحضارات تبلغ أوجها، وتبدأ بعدها بالإضمحلال، وما إن تدخل في صيرورة التراجع، حتى تحمل في خضمها، ثمارا يمكن أن تتلقفها أمم أخرى وتبني عليها أسس نهضتها.
الاقتصاد.. الدين الجديد
يرصد الكتاب قيام العقيدة الجديدة للاقتصاد الغربي، على مبادئ ثلاثة، وهي التقشف في النفقات العمومية، وخصخصة القطاع العام، وتحرير المبادلات التجارية، وفي البداية كان لهذه المبادئ، ما يبررها، بالنظر للإنفاق العمومي دون ضوابط، ما أدى لعجز في الكثير من الدول الإفريقية واللاتينية، استوجب نوعا من الصرامة لضبط المالية العمومية، كما أن الخصخصة حررت الدول من الكثير من الأعباء، وإعطاء نفس لمؤسسات عمومية كانت عاجزة، لكن ما يلاحظه الكاتب أن هذه المبادئ عوض أن تكون وسيلة ومرتبطة بسياق خاص، أصبحت هذه الإجراءات هدفا في حد ذاتها، بل إنها أدت في العديد من الحالات إلى نتائج عكسية.
ويلقي الكاتب اللوم على صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، لكونها تعاملت مع الخصخصة من منظور أيديولوجي، حيث لم تأخذ هاتين المؤسستين بعين الاعتبار ضرورة الدخول في الخصخصة، دون التفكير في الإنعكاسات الاجتماعية، فغالبا ما صاحبت هذه السياسات عمليات تسريح كبيرة، كان لها الأثر السيء على الدول التي لا تتوفر على نظام تأمين البطالة، وليس هذا إلا مثالا على كيف ساهمت هذه المؤسسات التي هي نتاج الغرب، في زيادة الإحتقان الإجتماعي، والرفع من نسب البطالة.
ويخلص الكاتب في الشق المتعلق بالاقتصاد، لكون الأزمة باتت بنيوية مثلما يقول الإقتصادي إيلي كوهين، والسبب هو الإنفصال بين الصناعة المالية وعالم الإقتصاد، من خلال لعبة المضاربات، وبات سبيل الإغتناء هو التحكم، في الآلة المالية، وليس الإنتاجية، ويذهب نعوم تشومسكي في نفس الإتجاه، لكون النظام الإقتصادي الحالي، بات يغلب الربح على الإنسان، بل وضد الإنسان، وبات الإقتصاد عبارة عن تضليل.
فصل الغرب عن تراثه الديني
العلاقة بين الدين الدولة، علاقة جدلية في الغرب إلى يوم الناس هذا، خصوصا مع نزوع اقتصاد السوق إلى فصل الغرب عن تراثه الديني، ويرى الكاتب أن الحضارة الغربية نهضت من التربة المسيحية، مستشهدا على ذلك بكون أغلب بناة النهضة، وفلسفة الأنوار، كانوا يؤمنون بالله، وبأن إنسان الأنوار هو تجل لإنسان عقيدة التوحيد، والذي يتمتع بحقوق أصلية بصفته، صورة الله، وبالتالي "فثورة الأنوار على الكنيسة لم تكن ثورة على التراث المسيحي بل استعادة له بأشكال أخرى".
وينقل الكاتب عن الفيلسوف الفرنسي كونيليوس كاستورياديس، تحليله للعلاقة بين الرأسمالية والدين، ويقول هذا الفيلسوف، إن الرأسمالية لم تكن لتقم ولتستمر لولا وجود أشكال أنثروبولوجية لم تنتجها، كالقضاة النزهاء، والموظفين المستقيمين، ولا يمكن ألا نرى أثرا للدين في إنتاج مثال هؤلاء، ولها الدور في إبقاء صرح الغرب قائما.
وهنا يتساءل الكاتب حول مدى الخطورة التي تشكلها الليبرالية الجديدة على تراث قرنين من هذا البناء الكنسي العلماني وفي قلبها الدولة، ليجيب بأنه لا شيء يقف أمام السوق، لا الكيانات الوطنية، ولا الدولة، ولا الديمقراطية، ويجزم بأن الرأسمالية، أجهزت على قيم مسيحية تعايشت مع الرأسمالية الصناعية من قبيل روح التقاليد، واحترام الجماعات والمؤسسات، والسلطة والتراتبية، لقد ضربت الرأسمالية المالية بهذا التوافق التاريخي
عرض الحائط على حد قول الفيلسوف الفرنسي، غوشي، وهذه هي الخطورة التي تهدد كل شيء حسب الكاتب حسن أوريد، وجعل منه سلعة، كالتربية، والصحة والديمقراطية والوطنية.
"نهاية نهاية التاريخ"
اختار الكاتب حسن أرويد لهذا الفصل من كتابه عنوان "نهاية نهاية التاريخ"، وفيه يرى أن اندحار معاقل العقيدة يجعل الإتجاهات العلمانية تدور حول نفسها، وتشك في ذاتها، كما لو كان وجود عقائد جماعية هو ما يعطيها مبرر وجود، فالعلمانية لا يمكن أن تبقى دون "عدو إيديولوجي"، والنتيجة هي السقوط نحو قيم تحل محل الدين أو العقيدة، وهي المال واللذة والعنف، التي يسميها ثالوث الغرب، ويقول إنه لم يعد حكرا على الغرب وانتقل إلى ضواحي العالم الغربي.
ويذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك ليصل إلى أن الغرب الرأسمالي، ليس مفهوما حضاريا ولا تاريخيا ولا جغرافيا، وإنما هو حياة ومنظومة عمل، وبذلك فهذا الغرب الرأسمالي يوجد في كل مكان، وهكذا بسط الرأسمال يده على كل مناحي الحياة وأصبحت شرعته هي المال، ويصف الكاتب هذا الوضع وصفا بليغا، بقول إن هذا الدين أصبح صلاة وهي الأرقام الضخمة، وكهنوت من الخبراء الماليين والمختصين الإقتصاديين، وحواريون من الإعلاميين اللامعين، والكل يسبح بسلطة المال، بل حتى فلول اليسار، باتوا من المؤلفة قلوبهم، ويضرب المثال باليسار الفرنسي، وأصبح اليسار بلا روح، ولا أي تأثير، فالفعل أصبح شأنا يهم الرأسمال والسلطة.
ويحذر الكاتب من كون الديمقراطية باتت في مهب الريح، لكون الرأسمالية المالية هدفها الربح عوض المصلحة العامة، ولذلك ترى في الدولة عائقا أمامها، علما أن الديمقراطية لا تقوم إلا في إطار واحد وهو الدولة، في المقابل ترى الليبرالية الجديدة أنه لا أحد يجب أن يقف أمامها لا الحكومات ولا الهيئات الوسيطة، ولا الأحزاب والنقابات، لأن لها بعدا غير وطني، وبالتالي فهناك تعارض بين الديمقراطية التي لا تقوم إلا في إطار وطني، وبين منظومة الليبرالية، التي لا تهتم بالمصالح المشتركة ولا بقضايا الهوية، ويقول بنجامين باربر "إذا كانت الديمقراطية تحت السوق فإن السوق لا يحب الديمقراطية.
ويرصد الكاتب العديد من الظواهر الخطيرة التي تهدد وجود الإنسان، نفسه، بالهرولة السريعة نحو الإنسان الآلة، إضافة للفورة الجنسية الخارجة عن كل منطق، وكل عرف، ويرى أن هذه الفورة تهلهل للنسيج الاجتماعي الغربي وتحلل التمثلات الإجتماعية.
ويؤكد الكاتب أن الغرب لم يؤمن بشيء وليس له تصور حول المستقبل، ويقوم بدفن الماضي، فلا يبقي سوى الحاضر بمتعه وإغرائه، ولا الأسرة ولا المدرسة يستطيعان أن يقوما بدور التنشئة لأنهما لم يعودا مؤسستين، بل بات ينظر إليهما كبقايا لعهود الماضي ولا تندرجان في المستقبل، إنه خريف الأسرة والمدرسة.
أما من حيث مآل الديمقراطية، فإن صاحب الكتاب يرى أنها لا تفضي إلى ظهور إنسان متميز، بل إلى إنسان مخاتل، وإلى استبداد من نوع خاص.
ولا تكمن أهمية الكتاب فقط فيما تضمنه من تشخيص للواقع الغربي الراهن ومؤشرات اتجاهاته نحو المستقبل فقط والتداعيات المحتملة لذلك على العالم العربي إذا لم يدرك قادة هذا الأخير خطورة هذه التحولات، وإنما في كون هذه المعلومات تصدر عن كاتب متخصص في الشؤون السياسية، وشغل مناصب سياسية رفيعة المستوى في بلاده، في الخارجية المغربية ثم مستشارا في سفارة بلاده بواشنطن قبل أن يعود إلى المغرب مدرسا للعلوم السياسية وناطق باسم القصر الملكي ثم مؤرخ للمملكة، ثم مدير لمركز للدراسات والأبحاث.