الحقيقة أنني ممن يعتبرون المعرفة الجيدة بالماضي مكوناً ضرورياً لثقافة المشتغلين بالسياسة أو الإعلام. وربما اختلف البعض معي في ذلك، لكن لا شك أن إعادة قراءة عناوين الصحف القديمة أمر ممتع وأن بعض هذه العناوين يجب أن تأخذ طريقها إلى برامج الكوميديا. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، فقد بدأت تقليداً جديداً وهو إعادة نشر خبر قديم ولو مرة واحدة في اليوم.
ومن المدهش حقاً أن تقرأ عناوين هذه الصحف التي كانت تصدر في الستينيات في عهد عبد الناصر، لتتساءل: كيف كان الناس يصدقون هذه الأكاذيب الواضحة التلفيق؟
عناوين صادمة
وأنت بنظرة واحدة على العناوين ستدرك أن هناك شيئاً ما ليس على ما يُرام، أحد هذه
الأخبار كان يبشر
المصريين بسيارة جديدة صناعة مصرية، ودعك من أن صناعة سيارة تعني أن تمتلك مصانع قادرة على إنتاج كل أجزاء السيارة. وأقرأ العنوان: "سيارة عربية أثارت الدهشة في أوربا!". ثم أضاف العنوان الفرعي: "إن السيارة قطعت 18 ألف كيلومتر وعبرت جبال الألب دون حاجة إلى إصلاح أو صيانة!".
ما الذي يدفع منتجي سيارة تُصنع في مصر إلى تجربتها في جبال الألب؟ ولماذا لا يجربونها في الهيمالايا مثلاً؟ ثم لماذا ينقلون السيارة المصنعة في مصر (كما يقولون) إلى جبال الألب لتجربتها؟ لماذا لا يجربونها على أي طريق صحراوي في مصر؟ ولنفترض أن معلوماتي عن السيارات قاصرة، وأن السيارات يجب تجربتها في جبال الألب، فلماذا تقطع السيارة 18 ألف كيلومتر؟ إن المسافة من القاهرة إلى الإسكندرية تزيد قليلاً على مائتي كيلومتر، فلماذا يجب أن تقطع السيارة التي أنتجتها مصر والتي تُجرب في جبال الألب، مسافة 18 ألف كيلومتر بدلاً من أن تسير 50 كيلومتراً أو حتى مائة كيلومتر إذا اراد مصنعوها تجربتها؟
بالطبع هناك قائمة من أسئلة لا تنتهي عن هذه السيارة. لكن فليقل لنا أحدهم: أين هي هذه السيارة الآن؟ هذه السيارة كتبت عنها الصحف وقُدمت أخبارها للشعب في مراسم احتفالية، حضرها عبد الناصر وهو ما يذكرك بمراسم الإعلان عن علاج الإيدز الذي قدمه اللواء عبد العاطي وحضره السيسي بعد الانقلاب مباشرة.
ماكينة الدولة
قد يكون من المقبول أن تعلن دولة ما عن بدء برنامج تصنيعي تصنع فيه نسبة ما بالمائة من مكونات سيارة، ثم تعلن عن أنها بصدد إطلاق خطة تطمح لزيادة هذه النسبة من المكونات. هذا مقبول ومنطقي لكن من غير المقبول الحديث عن تصنيع سيارة تسير في جبال الألب.
وهناك تلك المانشيتات عن مفاعل أنشاص أو المفاعل الذري العربي كما سمته صحف ذلك الوقت. تشعر وأنت تقرأ تلك العناوين أن هناك من يقرأها بلهجة حماسية ثم هناك تلك المانشيتات عن وكالة الفضاء المصرية. فإذا تركت الحقبة الناصرية قليلاً، ستجد نفسك تقرأ مانشيتات عن توشكي (والدلتا الجديدة في جنوب مصر) وستقرأ عنواناً يقول إن (مبارك يعطي في يوم تاريخي إشارة انطلاق مشروع القرن لتنمية جنوب مصر).
عندما يصبح الوهم مُؤسسيا
من المزعج حقيقة أن تتصور أن هذه الأخبار كانت تجد لها جمهوراً.
لقد تميزت حقبة
العسكر بمشروعات وهمية أقيمت على الورق وعلى شاشات القنوات وكلها تهدف إلى أن تمني الشعب بإنجازات يعدونه بأن تتحقق في المستقبل.
إن العسكر لم يحكموا مصر كل هذه العقود إلا بمعادلة اعتمدت في جانب كبير منها على الوهم، وأصبح هذا الوهم مؤسسيا يُمارس عبر صفحات الجرائد وشاشات القنوات وفي كتب الدراسة.
لكن هذا الوهم فقد قدرته على التنفس في اللحظة التي تصور فيها انقلاب 2013 قدرته على إسكات أصوات مناهضيه فارتكب مجزرة رابعة. لقد فتحت مجزرة رابعة بابا في جدار الوعي ولم يعد بمقدور العسكر الحديث عن سفن فضاء أو وكالات فضاء أو اكتشافات بترولية بعد سنوات أو سيارة تدهش الناس في جبال الألب.