ليس في نيتي الكتابة عن
أزمة المذيعين المبعدين عن إذاعة القرآن الكريم، ممن شكلوا بأصواتهم وجدان الكثيرين، فقد وصلتني رسالة منعتني من التسرع في الكتابة، حتى لا أصيب قوماً بجهالة، فكان القرار هو الانتظار حتى الإلمام بالموضوع من أطرافه!
فالرغبة في الكتابة عن هذه الإذاعة، تأتي مسكونة بعملية التجريف التي طالتها. ففي زمن الحكم بـ"الجرافة" التي استخدمت في تجريف الوطن بكل مؤسساته وساحته، لم يكن طبيعياً أن تمثل هذه المحطة الإذاعية مكاناً عصياً على التجريف، في وقت يسعى فيه الحكم إلى قطع أي اتصال للناس بالتاريخ أو الجغرافية ليصبح هو نقطة البدء ونقطة الانتهاء، وكأن قبله كان العدم!
لقد جرى استيراد رئيس للقناة من خارجها، وتبدو أنها مكافأة نهاية الخدمة له، على إنجازات غير مرئية، ولأن وظيفة القناة لا تمكنه من أن يتقرب إلى الآلهة بالنوافل، فقد غير من طبيعة هذه الوظيفة، حتى ضج مستمعيها من الخلط بين رسالتها والعمل السياسي؛ لأنه استخدمها لتحقيق أغراضه، فربما يطمع إلى ما هو أبعد منها، وباعتباره قادراً على أن يكون ذراعاً إعلاميا للعهد الجديد، وكان في هذا الدور يفك الارتباط بين الإذاعة وتاريخها، وبينها وبين مستمعيها، فلا يتم الإبقاء على صوت تحمل نغماته دلالة خاصة، أو رسالة تربط المستمع بماضيه، أو بقوة تأخذ المرء من عوالمه إلى عوالمها!
لست من هؤلاء الذين شكلت إذاعة
القرآن الكريم وجدانه طفلاً وصبياً، فقد كان "الراديو" عندنا يعني إذاعة البرنامج العام، الذي كان يبدأ ارساله في السادسة إلا خمس دقائق، بمقدمة لشيخ للتلاوة، ثم تبدأ تلاوة آيات من الذكر الحكيم ولمدة نصف ساعة. وعندما كان يبدأ الإرسال كان معنى هذا أن أقوم من نومي استعداداً ليوم جديد، يختم غالباً بتلاوة الساعة الثامنة مساء، والتي تستغرق أيضاً نصف ساعة، كان يسبقها برنامج "رأي الدين" الذي كان يقدمه "سيد علي السيد"، الذي خلفته "هاجر سعد الدين"، التي غادرت في وقت لاحق إلى إذاعة القرآن الكريم، وترقت حتى تولت رئاستها، وكنت أعتبر أن صوتها نشازاً في الإذاعة التي تخصصت في القرآن الكريم؛ لأنه صوت طفولي يميل للدلال على نحو يجعل مكانها الطبيعي هو إذاعة "الشرق الأوسط"، التي كانت الأقرب إلى المنوعات، حيث تمارس المذيعات "دلع" الصوت الذي يغطي على افتقاد جمال الشكل.
ومن الأصوات التي شكلت جزءا من مرحلة النشأة والتكوين؛ صوت "أبلة فضيلة"، وكذلك صوت "صفية المهندس" في برنامج إلى "ربات البيوت"، فـ"على الماشي" بصوت "صبري سلامة"، وكثيراً ما كنت أحرص على الاستماع إلى مسلسل الخامسة مساء!
هل لأن إذاعة القرآن الكريم لم يكن يصل ارسالها واضحاً إلى "الصعيد الجواني"؟ ربما، فأحيانا كان يصل التشويش إلى إذاعة البرنامج العام على قوة إرسالها، وعندما كان يحدث مع قرآن الثامنة، كان الكبار يقولون لنا إن إسرائيل تشوش على القرآن الكريم، ولا زلت أتذكر أن الوحيد الذي كان يومه محدداً هو الشيخ عبد الباسط عبد الصمد من كل أسبوع!
لكن بعد ذلك كانت إذاعة القرآن الكريم تصحبني في مرحلة الذهاب والعودة إلى عملي، وإن شكلت جزءا من وجدان كثيرين في الوجه البحري، حتى صارت مقدمات البرامج، وأصوات المذيعين علامة مسجلة، لكن ماذا يعني هذا في حكم بلا بصمة، جاء برئيس لإذاعة القرآن الكريم لم تعرفه أذن المستمع ورغم أنهم يقولون إنه عمل في إذاعة البرنامج العام، فلا نتذكر له شيئاً، لا على مستوى الصوت ولا على مستوى الأداء، وقد سألت عن اسمه؟ فذكروه لي وعندما بدأت في كتابة هذه السطور نسيت الاسم فقد تبخر، ومن الواضح أنه من ذات فصيلة
السيسي الذي ينظر إلى إلى
مصر فيظن أنها خُلقت حالا من العدم!
لقد كنت أستمع مؤخراً لهذه الإذاعة، عندما استمعت إلى برنامج جديد ومذيعة جديدة أيضاً، وقد استضافت من قدمته باسم أستاذ "الإعلام العسكري" بجامعة الأزهر، وهو تخصص فريد من نوعه، ولا وجد له في الجامعات المصرية ما ظهر منها وما بطن، لكنه "لزوم المرحلة"، إذ تذكر كثيرون صورهم بالزي العسكري، كما يعيد البعض ويزيد في أنه كان ضابطا في الجيش، مع أنه ضابط احتياط لمدة ثلاث سنوات فقط؛ هي فترة التجنيد الإلزامي!
كان الموضوع عن "البركة"، وكيف أن الناس تشكو هذه الأيام من انعدامها.والرجل ليس فقيها، وليس في تخصصه في الإعلام ما يجعله أهلا للحديث في الدين وقال الله وقال الرسول، ويبدو أنه ما دامت له علاقة باصطلاح العسكر فقد حق له الحديث في كل الموضوعات. ومؤخراً عقدت القوات المسلحة مؤتمراً لأطباء الأسنان، ولم يبق إلا أن تتولى نيابة عن عموم الأطباء السلطة في خلع ضرس العقل!
كانت الأسئلة ركيكة، والاجابات أكثر ركاكة، استخدمت فيها العامية بتوسع، مع أن المعتمد في إذاعة القرآن الكريم هو اللغة العربية الفصحى، فيقف المرء من خلال من يقدمون البرامج أو ضيوفهم على جمال اللغة، وروعة مفرداتها. وقد أدهشني أن "هاجر سعد الدين" فعلت هذا في آخر أيامها، وقد سألت مديرا للإذاعة فأدهشه ما أدهشني، لكن في زمن التجريف لا مانع من استدعاء اللهجة العامية، من المذيعة والضيف، فمن اختارها في إذاعة لم يكن اختيار من يعملون فيها يخضع للمحسوبية التي أفشلت الإعلام الرسمي في مصر، فكانت تبدو كما لو كانت إذاعة محررة لا شأن لها بهذا القبح الذي يحيط بها من كل جانب!
ينسب الفضل في تأسيس إذاعة القرآن الكريم لجمال عبد الناصر، وقد استخدمها الناصريون للرد على من يرمونه بالعداء للإسلام، فكيف لرجل يعادي الدين وهو صاحب فكرة إذاعة تلو كتاب الله على مدار الساعة؟ وليس صحيحاً أن عبد الناصر كان عدوا للدين، فما بينه وبين الإخوان لم يكن باعثه العداء للدين، فهو صراع على الحكم من ناحية، وهو صراع على زعامة التنظيم من ناحية أخرى. ولا تنس أن عبد الناصر كان منحازاً للجناح المتشدد داخل الجماعة في مواجهة مرشدها حسن الهضيبي. كما أن خصومته لم تقتصر على الناصريين، فقد بدأت بالوفد، وشملت الإخوان والشيوعيين، وجانب من هذه الأزمة مرده إلى طبيعة المستبد، الذي لا يطيق أن يسمع إلا صدى صوته، ولو كان شيخاً على سجادة!
وليس في إنشاء إذاعة القرآن الكريم ما يقوم دليلا على التدين من عدمه، فقد تكررت التجربة في أكثر من قطر عربي، ووقف وراء كثير منها مستبدون أيضاً؛ سعوا بها لتبيض وجوه اسودت بفعل تجرؤهم على حريات الناس وكرامتهم. وظلت الإذاعة المصرية عصية على التقليد أو المنافسة؛ لأن مصر تملك الذخيرة الحية والقوة الضاربة ممثلة في أجيال القراء، الذين لم "يجُد" الزمان بمثلهم، ولا يوجد بلد في طول العالم وعرضه يملك هذه الذخيرة وتلك القوة، والتي مثلت لعقود طويلة واحدة من قوى مصر الناعمة. فبلاد الحرمين لم تشهد مولد عبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنا، ومصطفى إسماعيل، ومحمد رفعت، وآل المنشاوي، وأم القرى ومن حولها لم تنجب النقشبندي، ونصر الدين طوبار، ولم ينجح المال السعودي في فرض أصوات في عداء مع الآذان اليقظة، والقلوب الخاشعة.
لقد أسس عبد الناصر إذاعة القرآن الكريم؛ لأنه يدرك ما يفعل، ويقوم عهد السيسي بهدمها؛ لأنه جعل مهمته تجريف كل شيء!
فلماذا يطرب الناس لصوت "شحاتة العرابي"، والأصل أن يطربوا لصوت واحد هو صوت عبد الفتاح السيسي؟!
انه زمن التجريف!