حركية غير عادية تشهدها
الساحة السياسية
التونسية هذه الأيام، وخاصة إذا أخذنا في هذه الفترة من السنة،
التي اعتاد فيها التونسيون الاستعداد للعطلة الصيفية، وتراجع اهتمامهم بالسياسة
والشأن العام لصالح الترفيه والسياحة..
نقاشات وتجاذبات سياسية
وانتخابية، على خلفية المنافسة الحادة في اختيار رؤساء
البلديات، وما ترافقها من
تحالفات متغيرة بين بلدية وأخرى. كما لا تغيب الجدالات والتحالفات بين الأحزاب، في
ما يتعلق بوضع الحكومة، بين من يطالب برحيلها اليوم قبل الغد، وبين من يتمسك بها
حتى حين، حفاظا على الاستقرار السياسي في بلاد عرفت ثماني حكومات في سبعة أعوام
بعد ثورتها.
تحالفات متغيرة
ميز تشكيل المجالس البلدية
التي حسم اختيار قيادتها حتى الآن؛ قيام تحالفات متغيرة ومتناقضة بين بلدية وأخرى.
فبعد التوتر الحاصل بين حركتي
النهضة ونداء تونس، وتباين مواقفهما من بقاء حكومة
رئيس الوزراء يوسف الشاهد، بين
النداء المطالب برحيل الحكومة ورئيسها المنحدر
سياسيا من حزب النداء؛ وحركة النهضة المطالبة بالحفاظ على الحكومة، ضمانا لاستقرار
البلاد، فشلت مساعي التحالف بين الحزبين في اختيار رئاسات البلديات، ومن ثم نشأت
تحالفات متغيرة بين بلدية وأخرى.
ففي بلدية ما يمكن أن
يتحالف الحزبان الكبيران ويتقاسمان المسؤوليات، وفي بلدية أخرى يتصارعان، ويعقد كل
واحد منهما تحالفات تمكنه من أخذ نصيب أكبر من المناصب والمسؤوليات. وفي بلدية
ثالثة يمكن لحزب من الحزبين الكبيرين أن يتحالف مع حزب صغير ويعطيه رئاسة البلدية
نكاية في شريكه في الحكومة، كما حصل في إحدى البلديات في ضواحي تونس العاصمة، حيث
عمد حزب نداء تونس للتحالف مع حزب صغير هو حزب التيار الديمقراطي؛ وسلمه رئاسة
البلدية على حساب شريكه حزب حركة النهضة.
كما لعبت القوائم المستقلة
دورا مهما في التحالفات التي أنشأتها مع أحد الحزبين أو سواهما في حسم رئاسة
البلديات. وقد حصل عدد من المستقلين على رئاسة بلديات ثانوية حتى الآن، بفضل ما
أنشأوه من تحالف تارة مع النهضة وتارة مع النداء، وتارة أخرى مع أحزاب أصغر حجما.
لكن المستقلين ظهروا عمليا في معارك توزيع المسؤوليات كيانات لا رابط بينها، ما
جعل الحزبين الكبيرين: النهضة والنداء؛ يتمكنان في أكثر الأحيان من حسم النتائج
لصالحهما.
النهضة تتقدم على النداء
عدد البلديات التي تجري
عليها المنافسة 350 بلدية. لكن المنافسة الأهم تجري في مراكز الولايات أو المدن
الكبرى، وهي 24 مركز مدينة كبيرة أو ولاية. وقد حسمت حتى كتابة هذه السطور سبع من
24 بلدية كبرى، فازت حركة النهضة حتى الآن بخمس بلديات كبرى، وفاز حزب النداء باثنتين
فقط. فقد فازت النهضة ببلدية صفاقس، وهي ثاني أهم مدينة بعد العاصمة تونس، كما
فازت بثلاث بلديات كبرى في الجنوب الشرقي هي قابس ومدنين وتطاوين. وفازت ببلدية
بنعروس في محيط العاصمة تونس، بينما فاز حزب النداء ببلدية قفصة (جنوب غرب) وبلدية
الكاف (شمال غرب تونس).
وبالنسبة للبلديات الأقل
شأنا، فقد فازت النهضة فوزا شبه تام في البلديات الواقعة في الجنوب الشرقي للبلاد مع
حضور ضئيل جدا لنداء تونس، في حين تقاسم الحزبان منطقة الساحل، المحسوبة تاريخيا
على النداء، ولكن مع أرجحية ظاهرة لصالح الأخير. وكذلك الحال في الشمال الغربي،
وهي أيضا من المناطق المحسوبة على حزب النداء. لكن النهضة نجحت في انتزاع العديد
من البلديات المهمة من يد حليفها الغريم. وأما بالنسبة للوسط، وخاصة صفاقس
والقيروان والقصرين وسيدي بوزيد، فالحزبان الكبيران كفرسي رهان مع أرجحية واضحة للنهضة
على النداء.
وأما بالنسبة للعاصمة
الكبرى، وتضم ولايات بنعروس وأريانة ومنوبة وتونس العاصمة، ويقيم بها نحو ثلاثة
ملايين ساكن، فالتنافس فيها على أشده مع أرجحية لحركة النهضة، التي فازت حتى الآن
ببلدية بنعروس وخسرت أريانة لصالح قائمة مستقلة، وقد تخسر منوبة لصالح النداء، مع
ترجيح فوزها لأول مرة ببلدية العاصمة، لتكون مرشحتها الدكتورة سعاد عبد الرحيم أول
شيخة مدينة في تاريخ العاصمة.
ندائيون يثأرون من النهضة
يبدو حزب نداء تونس بلا
قيادة مركزية تدير عملياته التفاوضية.. فقيادة الحزب مشغولة أكثر بإقالة رئيس
الحكومة المنتمي أصلا للنداء من انشغالها بترتيب العملية الانتخابية، حتى إن صفحة
الحزب الرسمية على فيسبوك لا تبدو معنية بالمرة بما يجري في البلديات.
هذا الأمر جعل مرشحي حزب
النداء يديرون تحالفاتهم بدون موجهات مركزية.. في بعض البلديات تحالفوا مع النهضة،
وفي بلديات أخرى مع أحزاب أو قائمات مستقلة، وفي بلديات أخرى بدا الندائيون
مستعدون لفعل أي شيء حتى تخسر النهضة، ولو خسروا هم كل شيء. ففي أكثر من بلدية حل
فيها النداء ثانيا بعد النهضة "باع" هذا الحزب أصواته لأحزاب صغيرة،
نكاية بالنهضة. وقد استفاد من ذلك أحزاب التيار الديمقراطي والجبهة الشعبية
وسواهما، حتى إن حزبا يملك ثلاثة أصوات فقط؛ صار بوسعه أن يفوز في بلدية عدد
الأصوات فيها 18 صوتا.
قيادات مؤدلجة وقواعد
متحررة
من أبرز ميزات التحالفات
البلدية التراجع الجزئي للصخب الأيديولوجي لصالح الحسابات المحلية. فقد ضربت
القيادات الجهوية والمحلية لعدد من الأحزاب المؤدلجة بالحسابات الأيديولوجية
لقياداتها، ومارست التحالفات الانتخابية بعيدا عن أوامر قياداتها. حصل هذا بالنسبة
لمعظم الأحزاب الصغيرة، التي أعلنت قياداتها رفضها التحالف مع حزبي النهضة أو
النداء. لكن القواعد والمستشارين المنتخبين محليا لم يحفلوا بذلك.
فسواء تعلق الأمر بالجبهة
الشعبية (يسار) أو بحزب آفاق تونس (ليبراليون) أو حزب التيار الديمقراطي (يسار
الوسط)، فإن قواعد هذه الأحزاب مارست التوافقات المحلية ولم تلتزم بأوامر
قياداتها. وبالرغم من أن بعض تلك الأحزاب قد جمدت مسشاريها البلدين، إلا أن ذلك لم
يغير في قرارتهم، وحافظوا على ما عقدوه من اتفاقيات سواء مع حركة النهضة أو مع حزب
النداء.
تجميد مستشارين بلديين من
قبل عدد من الأحزاب نظر إليه في العاصمة على أنه عقوبة ضد تمرد، في حين نظر إليه
محليا أو جهويا على أنه محاولة لكبح جموح التفلت من الايديولوجيا لصالح المصالح
الخاصة بالمواطنين، والنزول من علياء قادة الأحزاب إلى الواقع المعقد، وتجاوز
الأحقاد القديمة وعدم توريثها للشباب ولنشطاء الأحزاب في الأقاليم البعيدة عن
العاصمة.
مشكل الحكومة يراوح مكانه
بعيدا عن التنافس على رئاسة
البلديات وقريبا منه أيضا، يستمر مشكل الاستقطاب السياسي حول الحكومة، بين من
يطالب برحيلها عاجلا غير آجل، وبين من يدافع عنها ويعتبر بقاءها شرطا لاستقرار
البلاد.
فنداء تونس المهدد بالتفكك
يخوض معركته مع رئيس حكومته بكل قوة، لكن مساعي منسق الحزب حافظ قايد السبسي نجل
رئيس الجمهورية تبدو من غير طائل. فرئيس الحكومة يستحوذ تدريجيا على الحزب، ويحدث
فراغا حول نجل الرئيس، ويعقّد له مساعيه لإقالة الحكومة. ويبدو أن الرجل الذي فشل
في أن يتمتع بالحد الأدنى من الملكات السياسية والكاريزمية لأبيه يخسر باستمرار
حزبه وتسقط منه قطعة لصالح غريمه رئيس الحكومة كل يوم.. فكتلة الحزب في البرلمان
بات أغلب عناصرها منحازا لرئيس الحكومة، وهو ما يجعل حافظ قايد السبسي بلا أوراق
ضغط تمكنه من تغيير الحكومة.
في المقابل تبدو حركة
النهضة، التي وقفت بقوة خلف بقاء رئيس الحكومة، مرتاحة في موقفها السياسي، بعد أن
تعدلت موازين القوى لصالحها، حتى وصل الأمر بالقيادي في نداء تونس وزير التربية
السابق ناجي جلول إلى اعتبار الحكومة الحالية حكومة النهضة. فقد فازت الحركة في
الانتخابات البلدية الأخيرة، ونجحت في الفوز برئاسة عدد مهم من البلديات الكبرى.
كما نجحت في الحفاظ على كتلتها البرلمانية موحدة، لم يستقل منها سوى عنصر واحد،
بينما خسر نداء تونس الانتخابات البلدية وخسر معظم كتلته البرلمانية، ومن بقي فيها
انحاز لرئيس الحكومة على حساب منسق الحزب.
انحياز الاتحاد العام
التونسي للشغل، وهو قوة لا يستهان بها، لصالح فريق حافظ قايد السبسي داخل نداء
تونس، بعد تفتت كتلته البرلمانية، تعني أن الحزب لن يراهن على التغيير مرورا
بالبرلمان، بل قد يراهن على الإضرابات والفوضى لإسقاط الحكومة.. وهو أمر قد يحرق
آخر أوراق شق حافظ داخل النداء.. فهذا الحزب أصلا يعرف بأنه حزب رجال الأعمال،
وانحيازه للنقابة العمالية على حساب الحكومة ورجال الأعمال، سيجعله يخسر ما بقي له
من أوراق، قد تجعله يخسر مسبقا رهان الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة
العام القادم.
رئيس الجمهورية المحرج جدا
من أن يختار الانحياز لنجله على حساب الحكومة والدولة، يبدو أنه بات هو الآخر بلا
أوراق كثيرة قادر على أن يلعبها.. فثعلب السياسة التونسية
صار اليوم عاجزا عن لملمة صف الحزب الذي أوصله للرئاسة، ما دام نجله على رأسه،
وبالتالي فهو لا يملك الكثير لفعله، إلا أن يضحي بنجله، ولا أظنه يفعل.. بقيت ورقة
قد يلعبها تتعلق بلجنة الحريات الفردية، التي كلفها السنة الماضية بإعداد تقرير
لإصلاح مجلة الأحوال الشخصية، يحاول من خلال إنشاء استقطاب جديد في الساحة
السياسية بين علمانيين تقدميين وإسلاميين.. لكن حتى هذه الورقة لا تبدو موفقة حتى
الآن.. فالرفض الشعبي لها بات واسعا، ويرى فيها انتهاكا صارخا للدين وللتقاليد
الاجتماعية.. لكن هذا مبحث آخر سيكون موضوع مقال آخر.