عاد التوتر والاستقطاب الحاد للساحة السياسية
التونسية منذ أسابيع، وتفاقم وازدهر بعد العملية
الإرهابية الأخيرة.. أجواء الانتخابات تهيمن على السياسيين قبل أكثر من عام كامل من الموعد الانتخابي.. تقاتل وتهارش سياسي وإعلامي يزيد الإرهابُ نارَه اشتعالا وتأججا..
في كل دول العالم يدفع التحدي الإرهابي الشعوب إلى التوحد في مواجهة الخطر، لكنه في تونس يكون مناسبة لمزيد من الانقسام والصراعات المنفلتة من عقالها.
حزب نداء تونس يريد استغلال الأحداث لإسقاط الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، والجبهة الشعبية تريد الخلاص من الحزب الأول في البلاد: حركة
النهضة، بزعم أن للحركة تنظيما سريا يخترق الأمن والعسكر، وأنه متورط في الاغتيالات السياسية.. والرأي العام يعرف أنها تطالب بحل حزب النهضة حتى تتمكن من الفوز في الانتخابات القادمة في غياب المنافس الأبرز..
..وإرهاب يقتنص اللحظة السياسية ليزيد الأزمة استفحالا، عبر تفجير انتحاري غريب في أطواره ونتائجه، يدفع السياسيين لمزيد التشاتم والتسابب، بدلا من التوحد في مواجهة الخطر.. ورأي عام بات شكاكا متوجسا يتهم سياسيين بتوظيف الإرهاب للفوز الانتخابي.
رئيس في عين العاصفة
رئيس الدولة صاحب التسعين عاما، والذي حنكته الأيام، فهو في قلب المشهد السياسي التونسي منذ أكثر من ستين عاما، يرتبك أمام العملية الإرهابية الأخيرة، وتصدر عنه تصريحات غريبة.. قال الرئيس الباجي قايد السبسي: "كنا نعتقد أننا قضينا على الإرهاب.. لكن إن شاء الله الإرهاب ما يقضيش علينا".. تصريح قوبل بالاستهجان الشديد في الساحة التونسية، حتى علقت إحدى المدونات بالقول إن الرئيس شامت في شعبه كأنه رئيس دولة معادية.. أما محسن مرزوق، الأمين لحزب مشروع تونس، وهو الرئيس السابق للحملة الانتخابية للرئيس قايد السبسي في انتخابات 2014، فعلل تصريحات رئيس الجمهورية المرتبكة بالإرهاق، قائلا: "تصريح الرئيس لم يكن موفقا، ولم يقصد التعبير بتلك الطريقة، والرحلة إلى ألمانيا قد تكون أنهكته".
سياسي آخر، هو الوزير الأسبق الأزهر العكرمي، وكان من أقرب المقربين من الرئيس قايد السبسي، يتهم الرئيس بأنه كان يتمنى لو سقط عدد كبير من القتلى في العملية، حتى تكون مبررا له لإقالة الحكومة التي عجز عن إقالتها؛ نظرا لعدم قدرته على توفير النصاب الكافي في البرلمان لسحب الثقة منها.
استهداف الاستثناء
تتشتت
الأحزاب وتتمزق، وحركة النهضة (الاستثناء الحزبي التونسي) متماسكة. فقد نظمت الحركة في نهاية الأسبوع الماضي ندوتها السنوية، التي حضرها أكثر من 1200 من قياداتها المحلية والجهوية والمركزية وكتلتها البرلمانية، فضلا عن رؤساء البلديات المنضمين إليها وكتلها في المجالس البلدية، تبحث كيف تدير اختلافاتها بشكل بناء، وتعمل على تطوير عملها البلدي، بما يساعدها على الفوز في الانتخابات البرلمانية العام القادم.
هذا الوضع الذي تنقسم فيه الأحزاب وتتذرر مقابل تماسك حركة النهضة؛ جعل العديد من الأحزاب تتكالب على الحركة.. فحزب نداء تونس، شريك النهضة السابق في التوافق، يعمل جاهدا من أجل إسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة تجمع القوى "الحداثية"، من دون النهضة.
والجبهة الشعبية اليسارية تعمل جاهدة على حل الحركة، بزعم أنها تملك تنظيما عسكريا سريا، وأنها تخترق قوات الأمن والجيش، وأنها حزب إرهابي مسؤول عن الاغتيالات السياسية. وعلى الرغم من أن الجبهة ترفع هذا الخطاب منذ أكثر من خمسة أعوام، فإنها لم تتمكن من إقناع القضاء بجدية اتهاماتها للنهضة، كما لم تتمكن من إقناع الرأي العام بجدية هذه الاتهامات؛ التي تغيب طويلا ثم تعود للظهور كلما اقتربت مواسم الانتخابات.
النهضة عارية أمام جوقة الإعلام
وسائل الإعلام التي يسيطر على معظمها اليسار التونسي، الوجه الآخر للنظام القديم وأحد أهم أدواته، لا توفر فرصة دون أن تنال من حركة النهضة. وزاد التفجير الانتحاري الإرهابي الأخير موجة الهجوم على الحركة.. كثير من القنوات التلفزيونية والإذاعية بادرت باتهام النهضة بالمسؤولية عن التفجير الانتحاري قبل أن تعرف تفاصيل الهجوم..
جوقة إعلامية تتقاسم الأدوار للنيل من الحركة: الإذاعات صباحا وظهرا والقنوات التلفزيونية ليلا.. وفي غمرة عمل الجوقة، تضيع المهنية ويتحول الإعلام من تقديم المعلومة والتحليل المبني على معطيات دقيقة، إلى تنظيم المحاكمات بناء على الشبهة والظن.. تقام "البلاطوات" كل ليلة.. يستضاف قيادي من النهضة في مواجهة أربعة أو خمسة من الخصوم والمعادين.. حتى المذيع المفترض فيه الحياد في إدارة الحوار لا يعرف للحياد طريقا.. يصبح هو الآخر طرفا في الحوار غير المتكافئ.
حاولت النهضة أن تعدل من اختلال المشهد الإعلامي بالمساهمة في خلق إعلام جديد، لكن الإعلام الجديد ترنح في ظل نقص الخبرة والمال، وآلت معظم المشاريع الإعلامية التي نشأت بعد الثورة إلى الضمور ثم الموت.. فالمال قوام الإعمال، ولا مال لأنصار التيار الإسلامي والثوري، الذي انتقل من السجون والمنافي إلى فضاء الحرية.. حاول لكنه لم يفلح، وبقي الإعلام القديم، الذي كان يهاجم النهضة لصالح نظام الرئيس المخلوع، يهاجمها اليوم في زمن الحرية والمسار الديمقراطي.
كاميرات المراقبة
في وسائل الإعلام جمعت الشبهات وصدر الحكم النهائي البات.. النهضة هي المسؤولة عن العمل الإرهابي.. بعضهم يحملها نصيبا من المسؤولية السياسية باعتبارها شريكة في الحكم، وأكثرهم يحملها المسؤولية الجنائية، سعيا للتأثير في الرأي العام في سنة انتخابية تكثر فيها الاتهامات والإشاعات والتهارش الإعلامي والسياسي.
وزارة الداخلية ووزارة العدل المعنيتان بالدرجة الأولى بالتحقيق في الجريمة الإرهابية وكشف ملابساتها؛ لم تقولا حتى الآن إلا القليل عن التفجير الإرهابي.. فالبحث ما زال جاريا، والمعلومات ما زالت تجمع لإعادة صناعة المشهد وكشف الملابسات. ونداءات في الفضاء الافتراضي للاستفادة من التجربة التركية في التحقيق في مقتل الراحل جمال خاشقجي عبر استخدام كاميرات المراقبة في الطرقات والمحلات العامة، لإعادة تشكيل المشهد وكشف أطرافه.
لكن وزارة الداخلية التونسية التي تجاهد للتأقلم مع الوضع الديمقراطي الجديد، بعد أن كانت أداة الاستبداد الرهيبة، تصل للمعلومات عبر التعذيب المؤدي أحيانا للقتل، تعمل اليوم على تطوير قدراتها وكفاءاتها البشرية والمادية، حتى تتمكن من تغيير طرق الحصول على المعلومات..
فلم يعد التعذيب ممكنا دون أن يكتشفه الرأي العام، ومن ثم فتعصير الأجهزة والعقلية وتطويرهما، واعتماد الطرق العلمية في البحث والتحقيق هو الحل.. ولا يعرف التونسيون إلى أين وصلت وزارتهم في هذا الشأن.. هم يطالبون وينتظرون، ولا يعرفون إلى متى يطول الانتظار.. في الأثناء يستمر التراشق الإعلامي يغذيه إرهاب الزمن الانتخابي.