منذ أن وقعت أهم الأطراف السياسية والاجتماعية التونسية على وثيقة قرطاج سنة 2016، مثلت هذه الوثيقة مرجعية الحكم الأساسية لما سُمّي بحكومة الوحدة الوطنية. ومن المعلوم أن وثيقة قرطاج قد رأت النور بمبادرة من رئيس الجمهورية السيد الباجي قائد السبسي؛ الذي نجح في جمع أهم القوى السياسية في الحكم والمعارضة، باستثناء الجبهة الشعبية اليسارية (حركة نداء تونس، حركة النهضة، الاتحاد الوطني الحر، آفاق تونس، حركة الشعب والمباردة الدستورية، حركة المسار، الحزب الجمهوري)، كما نجح في الجمع بين الفرقاء الاجتماعيين (الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي الصناعة والتجارة، الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري).
إنّ المطلع على نص وثيقة قرطاج، يقف على معطيين هامين ينبغي أخذهما بعين الاعتبار لفهم الروح العامة لهذه الوثيقة من جهة أولى، ولفهم الأسباب العميقة التي تقف وراء المأزق الذي وصلت إليه وثيقة قرطاج 2 من جهة ثانية، بل المأزق الذي تعرفه الحياة السياسية في تونس منذ وصول السيد قائد السبسي وحزبه إلى الحكم:
"وثيقة قرطاج" بهذا المعنى ليست إلا لحظة من لحظات تغوّل مؤسسة الرئاسة وسعيها إلى مركزة السلطة فيها
1- جاءت هذه الوثيقة في إطار مبادرة رئاسية للبحث عن حزام سياسي واجتماعي لحكومة الوحدة الوطنية، "على قاعدة الأولويّات والتوجّهات المضمّنة بهذه الوثيقة التوافقيّة ومبادئ التشاركيّة". ومن الواضح أنّ "المبادرة الرئاسية" ليست إلا مظهرا من مظاهر الانقلاب الناعم على
سلطات رئيس الوزراء؛ الذي تحوّل منذ حكومة السيد الحبيب الصيد إلى وزير أول بالمعنى المعروف خلال حكم المخلوع. وهو انقلاب منتظر بحكم توازنات القوة داخل نداء تونس، وبحكم الاختلال الصارخ بين القيمة الرمزية والسياسية للسيد الباجي قائد السبسي وبين تلكما القيمتين لمن
اختاره الرئيس (وحزبه) لشغل منصب رئيس الوزراء. فلا يخفى على أحد أن السلطة الفعلية داخل نداء تونس (حتى بعد استقالته منه لتولي منصب رئاسة الجمهورية) هي للسيد باجي قائد السبسي، فالحزب لم ينجح في صناعة أية زعامات غيره تكون محل توافق وتقدير. وقد كان من المفروض بحكم القانون المنظم للسلطات؛ أن يكون زعيم الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية هو المرشح لمنصب رئيس الوزراء، ولكنّ رغبة السيد الباجي قائد السبسي في وراثة المخلوع وراثة ابن علي ومن قبله "الزعيم" بورقيبة (وربما حلمه باستعادة النظام الرئاسي بعد تعديل الدستور)، كل ذلك جعله يترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، رغم علمه بمحدودية صلاحياته مقارنة برئيس الوزراء. ولذلك، فإن "وثيقة قرطاج" بهذا المعنى ليست إلا لحظة من لحظات تغوّل مؤسسة الرئاسة وسعيها إلى مركزة السلطة فيها؛ بديلا عن رأس السلطة التنفيذية في القصبة، بل بديلا عن المجلس النيابي ذاته.
2- يذكر نص الوثيقة أن مبادرة رئيس الجمهورية قد جاءت لفشل "سياسات المرحلة الانتقالية من تحقيق أهداف الثورة، خاصة في مجال التشغيل والتنمية الجهوية". إذ" شهدت المرحلة المنقضية ارتفاع نسبة البطالة وتراجع مؤشرات التنمية، وانتشار ظواهر الفساد وتنامي عمليات التهريب، كما اتسع نطاق التهرب الضريبي وتراجع الاستثمار، وتكبدت البلاد خسائر فادحة في قطاعي الفوسفات والسياحة، مقابل تفاقم حجم المديونية. ودخلت تونس مرحلة حرجة بسبب تدهور أغلب المؤشرات الاقتصادية وتنامي خطر الإرهاب، لتجاوز الوضع الذي وصلت إليه تونس خلال المرحلة الانتقالية التي سبقت انتخابات 2014".
السيد قائد السبسي لم يكن يعني بالمرحلة الانتقالية سوى حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة. فلا شيء في أدائه ولا في مفردات جملته السياسية ينبئ بأنه يتحرك بمنطق النقد الذاتي
ولأننا نفترض أن من صاغ هذه الوثيقة هو شخص عاقل، فإننا لا نشك في أنّ السيد قائد السبسي لم يكن يعني بالمرحلة الانتقالية سوى حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة. فلا شيء في أدائه ولا في مفردات جملته السياسية ينبئ بأنه يتحرك بمنطق النقد الذاتي، حتى نذهب إلى أنه يعني بالمرحلة الانتقالية كل المراحل التي سبقت انتخابات 2014، بما فيها تلك المرحلة التي تولى فيها هو رئاسة الوزراء. وليست إشارتنا إلى هذا العامل إلا لفهم منطق "العقل السياسي" الذي يدير به السيد باجي قائد السبسي التوافق مع النهضة بصفة خاصة، ومع باقي الشركاء في وثيقة قرطاج بصفة عامة. فالوثيقة تستعيد المنطق الانتخابي ذاته: تحميل أزمة تونس للنهضة وللفترة الانتقالية باعتبارها أساسا مرحلة حكم الترويكا، أي شيطنة تلك المرحلة التأسيسية مقابل تبييض المراحل التي سبقتها في إطار التطبيع الرأسمال البشري والرمزي الذي حكمها من التجمعيين وحلفائهم في اليسار الثقافي.
لقد تحوّلت وثيقة قرطاج في نسختيها الأولى والثانية إلى ما يشبه مجلس الدولة، وهو مجلس ليست له أيّة صفة دستورية، ولكنه يستولي واقعيا على صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية معا. فهو يمارس سلطة رقابية على الحكومة بعد أن حدّد لها أولوياتها السياسية والأمنية والاقتصادية كلها. ولا يخفى على أي مراقب جاد للشأن التونسي أنّ الحكومة من المفروض أن تكون مسؤولة أمام نواب الشعب في المجلس النيابي، لا أمام مجموعة من الأطراف الذين يمثلون أحزابهم أو منظماتهم أكثر من تمثيلهم لإرادة الناخبين. ولا شك في أن وجود هذا الجهاز "الموازي" يُعتبر انقلابا على القانون المنظم للسلطات، كما أنه يمثل اعتداء على سلطات رئيس الوزراء وسلطات المجلس النيابي، مما يجعله جزءا من الأزمة، بصرف النظر عن ادعاءات المشاركين فيه بكونه جزءا من الحل.
لا شك في أن وجود هذا الجهاز "الموازي" يُعتبر انقلابا على القانون المنظم للسلطات، كما أنه يمثل اعتداء على سلطات رئيس الوزراء وسلطات المجلس النيابي، مما يجعله جزءا من الأزمة
في وجه من وجوهها، تعكس وثيقة قرطاج هشاشة الحقل السياسي التونسي، وتشير إلى طبيعة المتحكمين الفعليين فيه (النقابات المهنية للأجراء والأعراف مع مؤسسة رئاسة الجمهورية)، وهو ما يعني صعوبة انبثاق حقل سياسي "طبيعي"، على الأقل في المدى المنظور. إنها صعوبة لا ترتبط بعامل واحد، بل بجملة من الأسباب التي تجعل من وثيقة قرطاج تعبيرا عن التقاء مجموعة من الإرادات الجماعية التي لا ترغب في انتقال البلاد من المرحلة الرئاسية (بل الرئاسوية) إلى المرحلة التي نص عليها الدستور. ولا شك في أنّ استمرارية العقل السياسي "الرئاسوي" لن تتخذ الأشكال التقليدية التي كانت لها خلال حكم المخلوع مثلا. فتحت نظام المخلوع كانت مركزة السلطة لا تحتاج إلى شركاء حقيقيين، بل إلى "حلفاء" وإلى "أتباع"، أما بعد الثورة التونسية فإن الوعي "الرئاسوي" قد احتاج إلى شركاء حقيقيين لإسقاط حكم الترويكا ولاستعادة السلطة بعد انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية. وهم شركاء وجدهم أساسا في المنظمات المهنية بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف. ولا شك في أن السيد الباجي قائد السبسي يجسد قاطرة هذا الوعي "الرئاسوي (وهو وعي عائلي- جهوي- زبوني) ومركزه ورمزه الأبرز. ولا شك أيضا في أن وثيقة قرطاج تعبر عن ذلك الحنين/ المكبوت "الرئاسوي"، ذلك المكبوت الذي يعتبر ساكن القصبة مجرد موظف عند رئاسة الجمهورية، ويعتبر الرئيس شخصا فوق المحاسبة والمساءلة، وهو ما يعني إمكانية التضحية بـ"الوزير الأول" كلما دعت الظروف لذلك. ولكنّ السيد الباجي وفريقه وحلفاءه المعلنين والمخفيين ينسون حقيقة هامة، ألا وهي الحقيقة التالية: إن إضعاف ساكن القصبة (عبر اختيار شخصية ضعيفة وذات وزن حزبي أو نضالي ضعيف)، وإجباره على أن يكون مجرد وزير أول لا رئيسا للوزراء، يعني بالضرورة إضعافا للفاعل السياسي أمام باقي الفاعلين الجماعيين (خاصة النقابات المهنية)، كما يعني أيضا ترسيخا للأزمة الحادة التي تدّعي وثيقة قرطاج أنها قد جاءت لتجاوزها.