في مقالته الموسومة بـ"لا حرب
إيرانية-
إسرائيلية"، والمنشورة في الحياة اللندنية في 22 نيسان/ أبريل، يطرح الكاتب السعودي خالد الدخيل هذا السؤال: "لماذا تريد إيران إزالة إسرائيل وهي توفر لها غطاء لاحتلال لا تستطيع المجاهرة به كما تفعل تل أبيب؟".
بطبيعة الحال، سوف تتضمن المقالة مقارنة بين
الاحتلالين الإيراني والإسرائيلي، وهذه موضة رائجة هذه الأيام. لكن وقبل الولوج للموضوع؛ تجدر الإشارة إلى أن مقالة الدخيل حُذفت من الموقع الإلكتروني لصحيفة الحياة، لأسباب غير مفهومة، لكن الشكر لأرشيف غوغل الذي احتفظ بنسخة مخبأة منها، وأتاح لي قراءتها..
أخشى أن نبرة الدخيل تجاه الاحتلال الإسرائيلي، حيث جعله مستفيدا من الإيرانيين ومفيد الهم.. أخشى أن ذلك لم يعجب بعض من يريد أن يُخرج "إسرائيل" تماما من الصراع، ويُحلّ محلّها إيران بشكل نهائي، وبهذا يكون موقف الدخيل متقدّما على بعض صناع القرار في بلده، أو على ملاك الصحيفة!
على أيّ حال، يقول الدخيل إن إيران تتخذ من قضية مقاومة "إسرائيل" غطاء للتمدد في الأراضي العربية، وأن دعايتها التي تجعل من "إسرائيل" العدوّ الأول والأخير للعرب والمسلمين؛ تجعل من مواجهة إيران تخليّا عن مواجهة احتلال مباشر هو الاحتلال الإسرائيلي، لصالح مواجهة احتلال غير مباشر هو الاحتلال الإيراني، وبالتالي فوجود "إسرائيل" والدعاية الإيرانية المناوئة لها مفيدة للإيرانيين، كما أن "إسرائيل" مستفيدة من تفكيك الإيرانيين للكتلة السنّية بتأسيسهم تمددهم على روافع مذهبية وطائفية تمزق البلاد العربية، أمّا الكتلة السنية الكبيرة فهي التي واجهت "إسرائيل" دائما من قبل.
الاحتلال غير المباشر الذي يقصده الدخيل، هو تغطي إيران بمليشيات وأنظمة تستدعيها للتدخل، فهو احتلال بالوكالة وليس احتلالا مباشرا، ومع ذلك لا يفوت الدخيل، وكما هي الموضة الرائجة كذلك، القول إن إيران تحتل أضعاف
فلسطين التي تحتلها "إسرائيل"، وإن فاته -ربما - القول إن جرائمها تفوق الجرائم الإسرائيلية كمّا ونوعا، وهذه لازمة لا تكاد تخلو منها هذه المقارنات الاعتباطية!
لكن، والحال هذه، ينبغي القول هنا، إن الفارق بين شكل الاحتلال الإيراني المتغطي بقوى محلية، ومستند إليها، وبعضها قوى وأنظمة حاكمة، كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان، وحتى اليمن، وبين الاحتلال الإسرائيلي، ليس فارقا سطحيّا، ولا شكليّا؛ لأنّه فارق يشير باختصار إلى انعدام الإجماع المحلي على الموقف من إيران وتدخلها، بخلاف الاحتلال الإسرائيلي الذي يجمع الفلسطينيون على رفضه وعدّه احتلالا، بل والعرب كما يُفترض، رغم انقسامهم على كيفية معالجته!
ليس هذا هو الفارق الوحيد، فمهما كانت مواقف القوى المحلية المتصارعة في أيّ بلد من بعضها، فإنّ هذا لا يلغي أنها كلها نبتت من أرض بلادها، نبتا طبيعيّا، بل والإجماع العربي نفسه مفقود تجاه القوى المحلية التي تستند إليها إيران، حتى من الدول العربية المناوئة لإيران. فالدول العربية كلّها تحتفظ بعلاقات مع الحكومة العراقية، وبعض الدول المناوئة لإيران لا تظهر جدّية في الرغبة في إزاحة الأسد. ولم يعد خافيا أن التقدم الحوثي بدأ بترتيبات مع دول تقول إنّها مناوئة لإيران، وكان الهدف من هذه الترتيبات ضرب الحوثيين بالإخوان المسلمين اليمنيين!
وإنّه، ورغم المآسي الناجمة عن التدخل الإيراني، والتغييرات الديمغرافية، لا سيما تلك التي تحدث في العراق وسوريا، وعلى خطورة ذلك كلّه، فإنّ البلاد العربية ستظلّ بلادا عربيّة. أمّا في فلسطين، فإنّ كلّ شبر يُحتلّ منها يتحول إلى "إسرائيل"، و"إسرائيل" هذه لم يكن لها وجود في جغرافيا العالم، وإنما مصطنعة بالكامل، ولا استمرار لها إلا بالتهام فلسطين، وإبقاء مأساة المنفي الفلسطيني، وهذه الإشارة البسيطة والبدهية كافية لبيان سذاجة الذين يعالجون الاحتلالين من الجهة المذهبية باعتبار أن الفلسطينيين لن يتهوّدوا، بينما هناك خطر من التشيع. نعم، لم أقرأ ذلك للدخيل، على الأقل في مقالته المشار إليها، ولكن هناك من يتفوه بمثل هذه السخافات.
ليست الغاية الآن استعراض جوانب فرادة القضية الفلسطينية، وما يميز الاحتلال الإسرائيلي عن غيره، كما أن خطاب المكلومين بالتدخل الإيراني في بلادنا العربية، الذين يعقدون المقارنات بشكل دائم بين العدوانين الإسرائيلي والإيراني.. هذا الخطاب مفهوم منهم، وإن كان يرتكز لتصورات منها ما هو خاطئ، وينبغي مناقشته بلا مجاملة، هذا بالإضافة لعدالة قضايا الثائرين في البلاد العربية، لا سيما في
سوريا، إلا أن استحضار هذا الخطاب من الجهاز الدعائي لبعض الأنظمة العربية غير مقبول أبدا؛ لقيامه على المغالطة المتعمدة والمضللة بشكل كامل.
لبيان هذه المغالطة من الجهاز الدعائي لتلك الأنظمة، بما في ذلك كتّاب يحظون بقدر من الاحترام، يكفي أن نشير إلى افتقارهم للمصداقية الأخلاقية. فالجرائم التي يقترفها نظام عبد الفتاح السيسي، وتدعمه فيها تلك الدول والأنظمة، لا يستند فيها السيسي إلى تدخل إيراني، وهؤلاء الكتاب لا يقيمون وزنا لتلك الجرائم، ما دامت تقوم بها الدولة. هذا يعيدنا إلى فارق تغطي إيران في تدخلاتها بأنظمة ودول وقوى مشاركة في الحكم. وعلى الأرجح، لو أنّ عبد الفتاح السيسي، استعان بقوى أجنبية لقمع شعبه، فإنّ هؤلاء الكتاب لن يروا في ذلك احتلالا غير مباشر من تلك القوى الأجنبية، ما دامت دولهم وأنظمتهم تدعم السيسي!
يبقى أن نتحدث في نقطتين، الأولى هي أن تفكيك الكتلة السنية التي طالما واجهت "إسرائيل"، لم يبدأ مع إيران، مع أن هذه الأخيرة تسهم في ذلك بتأسيس سياساتها التوسعية على الطائفية والمذهبية، بل وتساهم بسياساتها التوسعية في خلق قضايا أخرى على حساب القضية الفلسطينية التي ترفع شعاراتها.
إنما الذي يتحمّل المسؤولية الأولى عن تفكيك الكتلة السنية هي الأنظمة التي فشلت في إدارة دولها، وفي إدارة منظومة عربية فاعلة، وفي التصدي لـ"إسرائيل"، وفي إحراز استقلال حقيقي عن الهيمنة الغربية، بل وفي التصدي لإيران، وبالتالي انتهت إلى تفكيك الكتلة السنية، والتي من عوامل تفكيكها حكم القهر والاستبداد، ومحاربة دعوات الحرية والإصلاح والقوى المجتمعية العميقة، كالتيار الإسلامي. وإيران، وإن كانت تقوم بذلك مثلا في سوريا، فإنّ الدول التي تدّعي مناوئة إيران تقوم بذلك في كل البلاد العربية بلا استثناء.
إنّ التخلي عن القضية الفلسطينية، فضلا عن الانخراط الكثيف في السعي لتصفيتها كما هو حاصل الآن؛ لا شكّ أنّه العامل الأهم في تفكيك الكتلة السنيّة، بيد أنّه، وطالما أنّ الوعي حاضر بخصوص استخدام إيران للقضية الفلسطينية لتغطية سياساتها التوسعية، فلماذا لا تخلّص تلك الدول العربية القضية الفلسطينية من الاستخدام الإيراني، على الأقل لأجل مواجهة إيران إن كانت مواجهتها أولوية؟ فليكن من أجل أنفسهم إن لم يكن من أجل فلسطين، وطالما أنّهم لا يفعلون ذلك، فهل يستخدمون بدورهم إيران ذريعة للتخلّي عن القضية الفلسطينية؟!