لا جدال في أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتمتع بعقلية تجارية ممتازة، رغم وصفه سياسيا بالتفاهة والسخافة. فالرئيس العجائبي لا يجد غضاضة في التعبير عن أطروحاته وآرائه المتناقضة وفق تقلبات السوق السياسي، فهو لا يخرج في تصوراته للواقع الدولي عن مقتضبات العرض والطلب، وحسابات الكلفة/ المنفعة، وبهذا فترامب يجسد أحد تحققات البراغماتية الواقعية الأمريكية بطرائق بيّنة، وفي قراءته الأخيرة للمشهد السوري خلص إلى نتيجة بسيطة تقوم على أن الوضع في
سوريا بات يتجه نحو التعقيد لا الحل، لذا فالمكسب الجيد حاليا هو الخروج منه بأقل الخسائر، وهو لا بخرج في خلاصته عن رؤية الولايات المتحدة التي تمثلت استراتيجيتها في سوريا بالقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية"، ثم الانسحاب والمغادرة، تلك هي مقدمة للضغط على حلفاء أمريكا العرب بطلب وجود
قوات عربية شمال سوريا، وهو طلب يعلم ترامب عدم إمكانيته سلفا، إلا أنه يقود حتما إلى المطالبة بدفع كلفة الوجود الأمريكي في سوريا.
في هذا السياق جاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتشديد على ضرورة سحب قواته من سوريا بأسرع ما يمكن. وتتكون القوات الأمريكية في سوريا من 2000 جندي، متوزعة على 20 قاعدة أمريكية في شرقي الفرات، وهي لا تشارك في أي اشتباكات وأعمال قتالية مباشرة، وتقتصر مهماتها على تقدبم الاستشارات وتنفيذ ضربات جوية فحسب، لكن الرئيس الأمريكي قام بإحراء تعديل على الاستراتيجية الأمريكية الأساسية التي سادت خلال عهد أوباما بأولوية القضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية"، وذلك بإضافة هدف آخر تمثل بالحد من نفوذ الجمهورية الإيرانية، لكن دون وضع آليات تنفيذية.
الانتقادات التي وجهت لترامب من كبار مستشاريه استندت إلى أن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية سوف يؤدي إلى خلق فرصة ذهبية؛ تفضي إلى عودة مقاتلي "تنظيم الدولة الإسلامية" إلى الإمساك بالأرض من جديد، وسوف تستثمر روسيا وإيران الفرصة بالسيطرة على الأراضي السورية التي كانت تحت السيطرة الأمريكية الداعمة لقوات "سوريا الديمقراطية"، وستصبح القوات الكردية الحليفة في مهب الريح، الأمر الذي دعا ترامب إلى طرح أسئلة استنكارية تقوم على منطق الكلفة/ المنفعة، تمثلت بالقول: لماذا لا تتدخل دول أخرى في سوريا بدلا من الولايات المتحدة؟ وخص منها دول الخليج الغنية. منطق حل المعضلة السورية، حسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، جاء عبر خطة سحرية توصل إليها الصقر الجديد في إدارة ترامب "جون بولتون" لتحقيق سحب القوات مع الحفاظ على المكاسب، وهي تكوين قوة عربية تحل محل القوات الأمريكية. القوة المنشودة تريدها الولايات المتحدة لسبب محدد: العمل المشترك مع الأكراد والمقاتلين المحليين المدعومين أمريكيا. وباشر بولتون تنفيذ الخطة عبر الاتصال بدول عربية عديدة كمصر والسعودية وقطر والإمارات، وقد طلبت الإدارة من الدول الخليجية الإسهام بمليارات الدولارات لإعادة إعمار شمالي سوريا.
لا تبدو خطة بولتون نظريا وليدة اللحظة، فقد كان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير قد صرح في مؤتمر صحفي بأن بلاده في نقاشات مع الإدارة الأمريكية منذ مطلع العام الجاري حول إرسال قوات عربية ومن "التحالف الإسلامي ضد الإرهاب" إلى سوريا، موضحا أن هذا المقترح ليس جديدا، بل جرى عرضه على الإدارة الأمريكية السابقة في عهد الرئيس باراك أوباما، لكن الأخير لم يتخذ إجراء تجاهه. وكشفت مصادر أمريكية أن إدارة ترامب تدرس تقديم ما وصفته بـ"مكافأة إجبارية" للمملكة العربية
السعودية من أجل إرسال قوات عربية إلى سوريا. فواحدة من الأفكار التي يدرسها حاليا مجلس الأمن القومي الأمريكي؛ تقديم للسعودية عرض بأن تصبح دولة بدرجة "حليف رئيسي خارج الناتو" إذا وافقت على إرسال قوات وتقديم مساهمات مالية للتمويل اللازم.
التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب الذي من المفترض أن يقوم بالمهمة؛ هو حلف عسكري إسلامي أُعلن عنه في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2015 بقيادة المملكة العربية السعودية، يهدف إلى "محاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره أيا كان مذهبها وتسميتها"، حسب بيان إعلان التحالف. ويضم التحالف العسكري الإسلامي 41 دولة مسلمة، ويملك التحالف غرفة عمليات مشتركة مقرها العاصمة السعودية الرياض، لكن هذا التحالف فشل في تحويل المخططات إلى وقائع، فقد كشفت المحطة اليمنية عن الحسابات المختلفة لدول التحالف المفترض، حيث رفضت معظم الدول المشاركة بإرسال قوات.
لا جدال في أن الحديث الأمريكي عن إرسال قوات عربية شمال سوريا جدي، لكن الهزل يتمثل بماهية هذه القوات وجنسياتها، وطبيعة أهدافها، ومدى قدرتها وفاعليتها في مواجهة مخاطر مركبة، فقد برهنت تدخلاتها في مناطق عديدة كاليمن وسيناء على عدم امتلاكها الخبرة في مواجهة صراعات منخفضة ومتوسطة الشدة، وهي لا تزال بعد قرابة ثلاث سنوات تراوح مكانها، فكيف يمكن أن تعمل في خضم نزاع معقد في ظل حروب الوكالة؟ وكيف ستتعامل مع القوى المختلفة على صعيد الحركات من غير الدول، كتنظيم الدولة الإسلامية، وقوات ومليشيات الدول الفاعلة، وفي مقدمتها إيران وتركيا، فضلا عن القوات الروسية، وقوات النظام السوري الذي بات منتشيا بالانتصار ويتحدث عن السيادة على كافة الأراضي السورية؟
خلاصة القول أن الولايات المتحدة جادة في البحث عن قوات عربية تعمل تحت إشرافها شمال سوريا، وهي خطة تقوم على تقليل الأكلاف وزيادة المكاسب، حسب منهجية براغماتية حسابية باتت واضحة في عهد الرئيس ترامب، من خلال الضغط على كافة حلفائها بزيادة مساهمتها في أعباء حفظ مصالحها. فإذا كانت بعض الدول العربية، وخصوصا الخليجية، تحدد المخاطر على أمنها القومي من الجماعات المصنفة كمنظمات إرهابية والجمهورية الإيرانية، فعليها أن تساهم في تحمل المسؤولية، والرسالة الأمريكية تصبح أكثر فجاجة وبراغماتية، وتستند إلى وجوب إرسال قوات عربية، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فلا بد من دفع أموال طائلة.