في
الثورة السورية، يمكن القول إن
حماس هي أكثر طرف غير سوري دفع ثمنا باهظا فيها. فبالإضافة لمشاركة بعض شبابها في
سوريا في الأحداث، فإنّها خسرت لعدد من السنوات الدعم الذي كانت تقدّمه
إيران، وهذا فضلا عن خسارات أخرى في علاقاتها والساحات التي توجد فيها أو تعمل عليها.
كانت حماس قد تجاوزت الحياد الإيجابي إلى إظهار تعبيرات أكثر تضامنا مع الثورة السورية، ثم غادرت قيادتها سوريا بالكامل؛ خلافا لما كانت قد قررته أول الأمر بأن تبقي لها هناك قدرا من التمثيل الرسمي. ثم وبعد خروجها من دمشق انحازت لأماكن جغرافية كانت دولها في صدارة الداعمين للثورة السورية والداعين لإسقاط النظام السوري.
شكّل ذلك قطيعة تامّة مع النظام السوري، وخروجا فعليّا من علاقات التحالف مع إيران، وإن لم تنقطع علاقات هذه الأخيرة وبعض أوثق حلفائها (كحزب الله) بحماس، وإنما ظلّت في الدرجة الدنيا من التواصل، بالقياس إلى ما كان عليه الحال قبل الثورة السورية، وذلك بالنسبة لقادتها، أمّا قواعد الحركة، فشكّلت - في حينه - قوّة ضاغطة على قيادتها لاتخاذ موقف مناوئ صريح للنظام السوري وحلفائه!
صحيح أن المجالات التي تتصل بها حماس بالغة السعة والتعقيد، بما يوجب على الحركة مراعاة اعتبارات جمّة في ظروف من هذا النوع، فعلاقاتها، وجذورها، والأطراف التي تبادلها الاهتمام والتعاطف، لا تقتصر على الفاعلين داخل المحور الإيراني، وهي، أي حماس، جزء من التيار العام في الأمّة، وجزء من أكثر قواه حجما وفاعلية، وصحيح أنّها أحسّت بحرج أخلاقي بالغ، مع تزايد أحداث القمع الدموي للمظاهرات في سورية، إلا أنّها بالإضافة لذلك اندفعت وفق تقدير تأكد فيما بعد أنّه أخطأ في رهاناته السياسية.
لم يلاحظ - ربما - صانع القرار في حماس في حينه؛ أن الثورات العربية لن تتوقف عند انتصار سريع وحاسم، وإنما ستدخل في مرحلة سيولة وتحوّل، أحد أبرز وجوهها لاحقا الثورة المضادة المعادية لحماس نفسها، ثم لم يأخذ بعين الاعتبار التعريف الحقيقي لبعض الدول الفاعلة التي اعتقد أنها ستكون إمّا صديقا نافعا أو مستفيدا ممتنّا يعوّض الحركة عن خساراتها، ولكنها الآن، تجد الخذلان ممن ظنته الصديق النافع، والعداء الصريح، لا لها فحسب، بل لقضيتها، ممن توقعت أنه سيكون مستفيدا ممتنّا.
على أيّ حال، لم يكن بمقدور حماس، أن تظلّ معزولة في الإقليم، أو تعاني الفاقة الهائلة، وتواجه المؤامرة الكبيرة إن عليها أو على قضيتها، وهي الحركة الكبيرة فلسطينيّا، التي تحمل عبء ملايين
الفلسطينيين، وعليها التعويل، بالنظر إلى ما هو متاح وقائم، بأنّ تمثل نقيضا للمشاريع التصفوية، وهو ما تطلّب أن تعيد الحركة حساباتها، وتبحث عن تحالفات، أو علاقات في الحدّ الأدنى، تستند إليها في قيامها بمهمّتها، وإلا لكان البديل مطالبتها بالانتحار، أو التفريط بقضيتها، وهي بذلك لا تملك كثيرا من ترف الاختيار والبحث، مع الأسف، فهذا هو الموجود في إقليمنا اليوم.
بطبيعة الحال، اقترفت حماس الكثير من الأخطاء، ليس هذا مقام الإتيان عليها، بل إنّ هذه المقالة في جانب منها تتناول حماس بالنقد، وإن من زاوية قد لا يوافقني عليها الكثيرون، ومن ذلك، أن خيارات الحركة بعد الثورة السورية، هي التي ينبني عليها اليوم بيانات وتصريحات لها مشكلة بخصوص الحدث السوري، وذلك لأنّها حينما غادرت الحياد الإيجابي إلى انحياز واضح للثورة السورية، تضطر اليوم لبيانات قد تفتقر للتوازن المطلوب من أجل استرجاع علاقتها بالمحور الإيراني.
ثمة ملاحظة في هذا السياق، وهي ورغم أنّ حماس الطرف الوحيد غير السوري الذي دفع ثمنا كبيرا لانحيازه إلى جانب الثورة، فإنّها الطرف الوحيد الذي يعاني هجوما شديدا من فاعلين في الثورة السورية كلما أبدت حماس تقاربا جديدا تجاه المحور الإيراني، هذا الهجوم يتوسل لغة متطرفة لا تنسحب على دول تلاعبت بثورة السوريين وخذلتهم، ومارست سياسات أو أطلقت تصريحات تتعارض تماما مع الثورة السورية، إلا ما كان من بعض الفاعلين ممن لهم انحيازات أو علاقات ببعض الدول (فثمة من يهاجم قطر وتركيا ولا يهاجم السعودية، وثمة العكس!).
في العموم، والحركة أقلّ حجما ومسؤولية وأثرا مما هي اليوم، كانت تنطلق في مواقفها الإقليمية من جملة اعتبارات، أهمها أنّها حركة مقاومة ومن ثم تتبنى مواقف مبدئية من التدخل الاستعماري في بلادنا العربية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد العربية، لا من منطلق الوطنية الضيقة، وإنما من منطلق خصوصية القضية التي تحتاج تفصيلا مستقلا، والحياد العملي تجاه الصراعات العربية الداخلية.
هذه المنطلقات ينبغي في المدى المنظور استرجاعها والاستناد إليها، فالحركة لم تتحول إلى فاعل إقليمي يستقلّ بقوّته عن الآخرين، ولا تتمتع بتحالفات مأمونة ثابتة، وتمرّ بضائقة لا أفق لحلّها، وقضيتها تواجه تحدّيا أضخم من كل ما سبقه وأخطر، في ظرف عربي فاحش السوء، وبالغ الاهتراء وعلى نحو غير مسبوق.
كلمة أخيرة.. الأحداث الإقليمية تتسم بالحساسية، وتحتاج قدرا كبيرا من التوازن. هنا نذكر، بأنّ العدوان الأمريكي على بلادنا لم يتوقف، بما في ذلك قصفه على المدن السورية والعراقية، فالقصف الأميركي فجر السبت 14 نيسان/ أبريل لم يكن الأول!