حدثان مفصليان رسما استراتيجية تركيا ما بعد سياسة "صفر مشاكل" التي صبغت سياستها لسنين مع محيطها الإقليمي والدولي، فقد تمثل الحدث الأول بإسقاط تركيا لطائرة حربية روسية أواخر شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2015، بينما تمثل الحدث الثاني بتنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة أواخر شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2017، وذلك بعد فوزه على المرشحة الديمقراطية المخضرمة هيلاري كلينتون.
الحدث الأول كان إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية، وهو ما أدى لقطع العلاقات بين البلدين، ووضع تركيا فجأة في مواجهة مفتوحة مع روسيا التي كانت قد انخرطت للتو بشكل مباشر في الحرب السورية، وتحديداً أواخر شهر أيلول / سبتمبر من العام 2015، أي قبل حوالي شهرين من إسقاط طائرتها، لتلقي الحادثة بظلالها السوداء على المشهد السوري، وتسهم في تغول روسيا التي شعرت بالإهانة وباتت تتحين الفرص لرد الصفعة التركية، فاستهدفت المناطق ذات الأغلبية التركمانية، وسخّرت آلتها العسكرية لدعم الانفصاليين الكرد، في قتالهم ضد فصائل المعارضة المدعومة تركياً، لتنجح في الاستيلاء على معظم الشمال السوري بعد طرد المعارضة منه.
لقد كشفت الحادثة هشاشة الموقف الغربي، ممثلاً بحلف الناتو عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، وعدم مساندته لتركيا بشكل كافٍ، بل وعدائه لها، حيث بدا أن تركيا في طريقها لمواجهة روسيا وحيدة، فكل المواقف والأحداث كانت تشي بأن الغرب قد نصب فخاً لروسيا وتركيا معاً، ما يعني استنزافاً لكلا الطرفين في المستنقع السوري.
الحدث الثاني تمثل بوصول ترامب لسدة الرئاسة، وهو الذي علق عليه كلا الطرفين (روسيا و تركيا) آمالاً عريضة، ليكتشفا لاحقاً أنه أضعف من أن ينفذ ما يدور بباله من خطط تجاه البلدين، ولتذهب تصريحاته الإيجابية أدراج الرياح بعد تصاعد الخلافات بينه وبين الدولة العميقة ممثلة بمؤسسات الحكم في الولايات المتحدة، على أثر محاولته تغيير أكثر من خمسين من قادة ومسؤولي معظم مؤسسات الدولة الكبار، وهو ما أدى لتسريب معلومات عن سلسلة طويلة من فضائح ترامب وأركان إدارته، فمن تزوير انتخابات الرئاسة الأمريكية وتورط روسيا فيها، إلى العلاقات التي تجمعه وبعض أركان إدارته بالكرملين، وصولاً لما تم تسريبه عن فضائح ترامب الجنسية وممارساته اللاأخلاقية.
لم تحتج تركيا لطويل وقت كي تكتشف أن الرئيس الجديد ليس سوى فقاعة إعلامية، وأنه يسير على نهج سلفه أوباما فيما يتعلق بمسألة دعم الأكراد، وما يمثله ذلك من تهديد للأمن القومي التركي، لتتصاعد حدة الخلاف بين الطرفين، خاصة بعد تحييد تركيا عن معارك الموصل والرقة، واعتماد الولايات المتحدة والتحالف الدولي على إيران ومليشيات الحشد الشيعي في العراق، ووحدات الحماية الكردية في سوريا.
لقد كان لنشاط اللوبي العربي (الإماراتي تحديداً) دور حاسم في تغيير مواقف ترامب من تركيا كما فعلوا مع قطر، والدفع باتجاه عزلها ومحاصرتها بالانفصاليين الكرد، وهو ما كشفته زيارة الوزير السعودي السبهان لمحافظة الرقة؛ من دعم السعودية والإمارات لكل من الحشد الشيعي وقوات سوريا الديمقراطية، عدا عن المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تعرض لها الرئيس أردوغان، وما أشيع عن ودعمهما وتمويلهما لها، إضافة للدور المشبوه الذي مارسته السفارة الأمريكية في أنقرة قبل وخلال المحاولة الانقلابية.
لقد عملت الولايات المتحدة على إدارة الأزمة بشكل يسمح لها بتوجيه كافة الإمكانيات للقضاء على تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وهو ما تعهد به ترامب في بداية حملته الانتخابية، وبالتالي فقد سمحت لتركيا بالتوغل في سوريا بهدف القضاء على التنظيم في ريف حلب ومدينة الباب الاستراتيجية، لكنها منعتها من التقدم باتجاه مدينة منبج التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية، فدخلت قوات أمريكية وروسية، ورُفِعت أعلام الدولتين على أهم الأبنية، وسُمح حتى لقوات رمزية لنظام الأسد بالدخول إلى المدينة.
تنسيق وتقارب روسيا - تركيا - إيران الثلاثي تجلى في أمرين: سقوط حلب، وإفشال محاولة استقلال إقليم كردستان العراق
تعهدت تركيا بمتابعة العملية باتجاه منبج وصولاً إلى الحدود الشرقية لسورية، الأمر الذي يعني حتمية الصدام مع الولايات المتحدة التي تحتفظ بعدد من القواعد العسكرية
مع دخول عملية غصن الزيتون أسبوعها الثاني، فإن ما حققته حتى الآن لا يتناسب مع حجم القوات التي حشدت للعملية
قد تستمر العمليات العسكرية على نفس الوتيرة، بانتظار نضوج المسار السياسي الذي تحاول روسيا فرضه على السوريين في أستانا وسوتشي
أرجح عودة المدينة لسيطرة نظام الأسد طوعاً لا كرهاً، وهو ما سيعني تفاهم كل من تركيا وروسيا وإيران، الأمر الذي سيعزز من فرص روسيا بفرض تسوية سياسية على الجميع
من السابق لأوانه التكهن بمآلات عملية غصن الزيتون، لكنني أرجح عودة المدينة لسيطرة نظام الأسد طوعاً لا كرهاً، وهو ما سيعني تفاهم كل من تركيا وروسيا وإيران، الأمر الذي سيعزز من فرص روسيا بفرض تسوية سياسية على الجميع، وبحيث تبقي على نظام الأسد مع تلقيحه بمكونات جديدة؛ عمل مؤتمر "الرياض 2" على ضمان كونها مؤيدة لنظام الأسد كلياً أو جزئياً، فمنصات موسكو والقاهرة وباريس ودمشق وأبو ظبي باتت هي المسيطرة على قرار هيئة المفاوضات التي لا يمكن بحال من الأحوال أن نعتبرها ممثلة للشعب السوري، ولا حتى للمعارضة، فكل ما يحدث يصب في مصلحة نظام أجرم بحق الإنسانية.
هل انطلق السباق الرئاسي في تركيا؟
معارك إدلب بين الدروس المستفادة ومصالح الدول
من أجبر الروس على التراجع في إدلب؟