لا وجود لمحور تركي
إيراني قطري.. هذا ما
أكّده وزير الخارجيّة التّركي، مؤكّداً أنّ بلاده تنظر إلى كافّة الدّول الإسلاميّة نظرة متساوية.
لم يولد الحديث عن هذا المحور من فراغ، فثمة معطيات كثيرة دفعت للحديث عن هذا المحور منها حضور الرّئيس الإيراني وأمير قطر قمة إسطنبول الإسلامية من أجل القدس، وتغيّب العاهل السّعودي والسيسي عن الحضور الشّخصي، رغم أهميّة الحدث ناهيك عن حصار دول خليجية (السّعودية، الإمارات، البحرين) لقطر، وتحسُّن العلاقات القطريّة الإيرانيّة، والتّفاهمات التّركيّة الإيرانيّة الرّوسية فيما يخصُّ أستانا واتفاقات خفض التّصعيد. هذه المعطيات وغيرها تدفع للاعتقاد بوجود مثل هذا المحور، ويذهب كثير من المتابعين للاعتقاد بأنّه ذاهب لتحالف استراتيجي.
لكنّ الواقعيّة السّياسيّة ترفض وجود مثل هذا المحور، فنظرة فاحصة لما يحدث أمامنا من تقارب تركي إيراني قطري؛ تؤكّد أنّ هذا التّقارب لا يتعدى صفة التقاء المصالح حول نقاط معينة ضمن ظرف تاريخي معيّن؛ مرتبط بأخطاء سياسيّة معيّنة ارتكبها بعض السّاسة دفعت لهذا التقارب "الاضطراري"، البعيد تماماً عن صفة المحور أو الطّابع الاستراتيجي. ومن الظروف المرحليّة التي دفعت للتقارب، الخشية التّركيّة الإيرانيّة المُشتركة من قيام كيان انفصالي كردي شمال
سوريا. فقوات الحماية الكردية، بمساعدة الولايات المتحدة، تعمل حالياً على تشكيل "جيش شمال سوريا" لحماية أمن الحدود وشمال البلاد. وصرح القيادي في قوات الحماية الكردية، سيابند ولات، أنّه بعد الآن لن يكون بإمكان
تركيا أو سوريا أو أي بلد آخر؛ أن يتجاوز على أراضينا بسهولة. وما زاد المخاوف، تصريج وزير الدّفاع الأمريكي ماتيس عن عزم بلاده إرسال المزيد من الديبلوماسيين والمدنيين الأمريكين لمراقبة الإعمار حتى لا تقع الأموال في جيوب الأشخاص الخطأ، وفق زعمه، ناهيك عن تهديد ماتيس لقوات الأسد في حال هاجمت قوات الحماية الكردية.
وساهم العامل الاقتصادي في التقارب التّركي الإيراني، إذ شكّلت تركيا متنفساً لإيران خلال الحصار، وزاد الميزان التّجاري بين البلدين بشكل مطّرد، وتحاول تركيا عبر سياستها الهادئة الفصل - ما أمكن - بين السياسة والاقتصاد.
أمّا الملفات القابلة للانفجار، فهي كثيرة، وتمنع غياب محور أو تحالف استراتيجي. فالسياسة الإيرانيّة في المنطقة طائفيّة توسعيّة، تدعم الأنظمة الاستبدادية استناداً لخلفيّة طائفيّة، خلافاً لتركيا الدّاعمة لكل تحول ديمقراطي. كما ترى إيران في دول الخليج خصوما، في حين تراهم تركيا شركاء محتملين. أما الملف الرّئيس فيتمثل بدعم إيران لنظام الأسد، ورفض تركيا القاطع لبقائه.
فبشار الأسد إرهابي قام بإرهاب الدولة، وفق ما قال الرّئيس التّركي أردوغان في تونس، حيث جزم بأنّه لا يمكن المضي مع شخص قتل قرابة مليون مواطن من شعبه.. فالتّقارب التّركي الإيراني هدفه تخفيف المعاناة لا إعادة تسويق الأسد، وبالتالي الصّدام المؤجل قادم بين تركيا وإيران، ولا سيما أنّ روسيا قد تتفق مع إيران في إعادة تدوير الأسد عبر سوتشي، واتهامات مبطنة لتركيا بدعم هيئة تحرير الشام.
أما العلاقات التّركيّة السّعوديّة، فتحسنت بشكل مطّرد سياسيّاً، عبر تبادل الزّيارات على أعلى مستوى والصّفقات الاقتصادية والتعاون العسكري، حيث شهدت العلاقات على كل المستويات بذورَ تطوّر لافت أزعج إيران والكثير من القوى الدّوليّة، ثم حصل برود مفاجئ لا يُعرف له تفسير. فقد وصلت قوات سعودية لتركيا، وبدأ الحديث عن عمليّة تركيّة سعوديّة مشتركة في شمال سوريا.. ليتبخر كل ذلك فجأة دون تفسير واضح. وربّما لعبت دولة الإمارات دوراً في ذلك، عبر تخويف السعودية من الإسلام السياسي، وبالتّالي كان حصار قطر يحمل رسالة لتركيا بأنّ الخليج يخشى الإسلام السياسي، وجماعة "الإخوان المسلمون" تحديدا، في تجاهل واضح لدور الإخوان الإيجابي في نهضة السعودية من جهة، وحرصهم على استقرارها الدّاخلي من جهة ثانية.. وكفاحهم ضد الاستبداد حق مشروع لأي جماعة أو حزب يحرص على نهضة بلاده.
ولا شكّ أنّ القوى الدّوليّة لعبت دوراً ما في هذه المسألة، ولسنا بصدد التّفصيل في كثير من سياسات الأمريكان والروس الدّافعة نحو هذا المجرى. ويكفي للدلالة على ذلك التأكيد أنّ دولة الإمارات لا تملك تلك القوة وذلك التّأثير بل الجرأة لانتهاج هذه السياسات لو لم تكن مدعومة من قوى خارجيّة، فدور دولة الإمارات، سواء في مصر أو ليبيا أو قطر أو اليمن أو فلسطين، تنفذ أجندة خارجية لا ناقة للإمارات فيها ولا جمل، والخيط الواضح لهذه السياسات خلق الفوضى ووقف عجلة التّحول الديمقراطي، وتهيئة الفرصة لقيام أنظمة مطواعة تابعة، ومنع دول الإقليم من تعاون مثمر.
فالواقعيّة السّياسيّة المحكومة بمنطق التّاريخ والجغرافيا ونقاط القوّة العسكرية والاقتصادية؛ تؤكد بالمقابل أنّ دولة قطر لا تريد ولا تستطيع الدخول في محاور وتحالفات خارج المحيط العربي، وتقاربها مؤخراً مع إيران فرضه الحصار. ولوحظ أنّ السّاسة القطريين يتمسكون ويحرصون على استمرار حبال الود، لا شعرة معاوية، مع أشقائهم العرب إدراكاً منهم أنّ المصير مشترك. فتوجهت قطر نحو تركيا لبناء شراكة استراتيجية، لا إيران، إدراكاً منها أنّ تركيا ستكون شريكاً استراتيجيّاً مستقبليّاً لكل العرب خلافاً لإيران.
ومن هنا نرى أنّ الغشاوة ستزول عن الأعين، وتدرك الحكومات في لحظة ما أنّ عليها مراجعة حساباتها التي إن استمرت ستفجر الدّاخل، إضافة لاشتعال النّار في الإقليم.