في غزة دمر موقع تل السكن الأثري الذي يعود تاريخه إلى أكثر من خمسة آلاف عام ويحتوي كنوزاً أثريةً تمثل شاهداً على حقب التاريخ القديمة في فلسطين.
هذه المرة لم يكن الفاعل إسرائيلياً بل نفذت الجريمة بجرافات فلسطينية بعد قرار اتخذه مسؤولون لا يرون في الآثار التي حفظتها الرمال الوفية أكثر من خمسة آلاف عام سوى "مجموعة من الأواني الفخارية"!
موقع تل السكن بحسب معلومات وزارة الآثار الفلسطينية مسجل في اليونسكو ويعتبر من أقدم المناطق الكنعانية التي تم اكتشافها في فلسطين، ويعود تاريخه إلى العصر البرونزي، وهو العصر الذي كان يسكن فيه الكنعانيون فلسطين، وقد ساعد اكتشاف ذلك التل عام 1998 على توضيح التاريخ القديم لغزة، وتطور العلاقات الفرعونية والكنعانية، ويعود تاريخه إلى ما يسبق بناء أهرامات مصر بحوالي ألف عام.
بدأ الاعتداء على الموقع بعد إصدار سلطة الأراضي قراراً بتخصيص الأراضي الواقعة في تلك المنطقة لعدد من الموظفين بدل مستحقاتهم المالية التي عجزت حكومة غزة عن الإيفاء بها نظراً لضائقتها المالية، ورغم صدور تحذيرات من العديد من الخبراء ومناشدات بالمحافظة على الموقع إلا أن المسؤولين أصموا آذانهم وواصلوا التجريف.
كان من بين المحذرين عالم الآثار الفرنسي جون بابتيسيت همبرت الذي حضر إلى غزة وعاين الموقع وأكد أن التجريف يجري في منطقة أثرية تعود إلى 5500 سنة ووصف تجريف المكان بـ "الإبادة" لواحد من أهم المواقع الأثرية في منطقة الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن عمليات التجريف أدّت إلى تدمير كل أسوار المدينة الأثرية وبواباتها الرئيسية. وأضاف الخبير الفرنسي متأسفاً: "لا يمكنني أن أكون حريصاً على تاريخ الفلسطينيين أكثر منهم، ولا أملك أنا أو غيري إجازة تجريف التل".
يضاف إلى تحذير العالم الفرنسي إدانة عشرات أساتذة التاريخ ومختصي الآثار في غزة تجريف التل، وكذلك أصدرت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن بياناً دعت فيه إلى وقف التجريف فوراً، وعبرت عن أسفها أن التجريف يجري على أيدي فلسطينيين يخوضون معركة وعي على الهوية والوجود.
كل هذه التحذيرات الصادرة عن أولي الخبرة والاختصاص لم تكن مقنعةً للمسؤولين الحكوميين لإدراك فداحة الجريمة التي يقترفونها بحق التاريخ، واستمرت الجرافات تطحن عظاماً وأحجاراً حفظتها الرمال خمسة آلاف عام، وبلغت مأساوية المشهد أن ترى طفلاً يحمل قطعاً أثريةً ويعرضها للبيع بخمسة شواقل (ما يعادل دولاراً واحداً ونصف الدولار).
لم يكن منبع الألم تدمير موقع أثري يمثل ثروةً للباحثين في التاريخ وشاهداً على الزمن القديم وحسب، بل ما كشفت عنه هذه الحادثة من تدني الوعي التاريخي، فقد كانت المبررات أقبح من الجريمة ذاتها، ما بين التذرع بأن التجريف في المنطقة بدأ منذ عهد الرئيس ياسر عرفات، وكأن جريمة الأمس تعطي شرعيةً لجريمة اليوم! أو القول إن الموظفين يستحقون تلقي مكافآت بدل خدماتهم التي قدموها للشعب، وهي حجة متهاوية إذ إن أحداً لم يجادل في حقوق الموظفين، لكن الخيارات لم تعدم حتى يكون تعويضهم بتدمير منطقة أثرية.
وقد سمعت وقرأت صراحةً من أكثر من شخص يحسبون من فئة المثقفين يقولون: وماذا سينفعنا المحافظة على الآثار، حينها انعقد لساني ولم أحر جواباً من الصدمة، أما أحد المسؤولين فقد سألته كيف تخصصون أراض في منطقة أثرية؟ فأجابني: إن قطاع غزة مليء بالآثار! ما ترجمته أنه لا مانع من تدمير بعضها.
هذه العينة من الإجابات والتبريرات تعطي تصوراً عن الحاضنة الثقافية للجريمة، فالذين لا يرون في الآثار سوى عظام بالية وأوان فخارية من الطبيعي ألا يحاولوا إنقاذها وأن يبدو هذا القدر من الاستهتار وغياب المسئولية تجاهها. وإذا كان تحديد المسؤول الجنائي يقتضي لجاناً قضائيةً مختصةً، فإنه يسعنا هنا محاكمة الثقافة التي أنتجت هذا السلوك عبر رصد التبريرات الظاهرة وتحليل طرق التفكير.
الآثار هي سفينة الإبحار إلى الأزمنة القديمة وعدة الغوص في الحضارات البائدة، في طياتها تختزن أسرار البشرية، وبفهم لغتها ينفخ الله الروح في العظام الرميم وينطق المساكن المتوارية تحت الرمال فتحدث أخبارها وتجلي خفاياها فيأتي التاريخ بين أيدينا يسعى ويعرض أحداثه داعياً إلى العظة والاعتبار.
جعل الله لكل شيء في هذا الكون لغته الخاصة، فمن علم منطق الأشياء سخرت له وتذللت لسلطانه، وهذا هو تحدي الإنسان في خلافته على الأرض، فقد علم الله آدم الأسماء كلها وسخر لذريته ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، لكن هذا التسخير كامن ينتظر من الإنسان بذل الجهد لتحويله إلى فعل ظاهر، فمن فهم لغة الأشياء اكتسب قوة تسخيرها واستثمرها في منفعة الإنسان.
تقول الآية القرآنية: "قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء"، لكن كيف تنطق الأشياء؟
إن هذا الكون مصمم ليحفظ أسراره فلا يمحى منها شيء، وهذا ينبهنا إلى بعد جديد في فهم القرآن حين يقول: "قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ"، هذا الكتاب الحفيظ ليس موجوداً في العالم الغيبي الآخر وحسب، بل إن طبقات الأرض والصخور والبقايا المادية هي كتاب حفيظ يحتوي أسرار الحياة وحقائق التاريخ.
إن مما يثير الإعجاب عبقرية الإنسان في استكشاف أسرار أزمنة لم يعشها، إذ كيف للمؤرخ أن يحدد أصول وعمر الإنسان والحيوان والنبات خلال الحقب التاريخية والجيولوجية التي تعاقبت فوق الأرض؟ وكيف للمؤرخ أن يتعرف على طبيعة الحياة الاجتماعية و كيفية عيش الأقوام في عصور ما قبل اكتشاف الكتابة والتدوين!
إن مرد هذه المكتشفات هو تعلم الإنسان لغة الأرض فتعطيه من أسرارها على قدر جهده وذكائه، وتكافئه على شغفه وتقديره لثرواتها علماً وقدرةً وتمكيناً، مثلما تعاقب المفسد الذي يجهل قدرها أن تمتنع عن إفشاء أسرارها له وتغلق دونه كنوزها.
إن تقدم الأمم يقاس بتمكنها من مفاتيح الطبيعة، ولا عجب أن يتقدم الغرب ويتأخر العرب، فهم يدركون قيمة الآثار ولو كان عمرها مئات السنين فقط، وإذا اكتشفوا بقية فك أو عظمة أخضعوها لكل أنواع الفحص ولم يتركوها حتى تحدثهم بأخبارها فيراكموا المعرفة ويعمقوا جذورهم في الزمان ويدربوا ناشئتهم على الوعي التاريخي باكراً فيعرف الإنسان موقعه في مجرى الزمان ويفهم البدايات التي جاء منها فيستشرف المستقبل ويستشعر موقعه من الصيرورة التاريخية.
ما حدث في تل السكن ليس استثناءً، ففي قطاع غزة وحده عشرات المواقع الأثرية المهجورة دون حراسة ورعاية، لا يعرف عنها معظم الفتية الناشئين شيئاً، ولا تفكر وزارة التعليم في تنظيم رحلات مدرسية إليها لتزرع في عقول التلاميذ المعرفة بتاريخ وطنهم، وقد سرقت كثير من الآثار أو دمرت كما حدث مع تمثال برونزي للإله الإغريقي أبوللو اكتشف قبل خمس سنوات في بحر غزة ثم اختفى ببساطة دون أن يسأل أحد أحداً كيف اختفى ومن المسؤول عن ضياعه، فإذا ألقينا نظرةً على المشهد العربي العام تذكرنا أمثلة الآثار المسروقة في العراق وسوريا ومصر و تدمير داعش للآثار في تدمر والموصل، ومن قبلها طالبان التي دمرت تمثالي بوذا، هذه الأمثلة المتعددة تؤكد أننا نواجه ثقافةً عامةً وليس أحداثاً معزولةً!
كيف تكون هذا الموقف المستهتر بالآثار في الثقافة العربية؟
إن القرآن يدفع في اتجاه تعزيز الوعي التاريخي وينبه إلى القيمة الروحية التي تتضمنها آثار الأقدمين، فهو يدعو إلى السير في الأرض والنظر في قصص الذين خلوا من قبلنا: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق"، إن القرآن هنا يدعونا إلى تنظيم رحلات سياحية لزيارة الآثار والاتعاظ منها فهي محاريب للصلاة مثل المساجد.
و"كيف بدأ الخلق" هو حقل علم الآثار فهو يدلنا على نشأة الحضارات الأولى والإنسان الأول، فإذا تكون الوعي بالبدايات صار الإنسان أقدر على فهم فلسفة التقدم الإنساني والاستفادة من التجربة التاريخية.
والقرآن يحذر من البلادة تجاه الآثار والغفلة عن الاعتبار منها: "فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا"، "فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ"، "وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون"، "وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ" أي إن مدينة سدوم في طريق واضح تمرون فيه، فظهور الأثر فرصة للتأمل والاعتبار.
إن مما يتضح جلياً في القرآن أنه يفتح عيني المؤمن على آثار الأولين ويجعل من هذه الآثار آيات دالةً على الله: "وفي الأرض آيات للموقنين".
إذا كيف نفهم الانفصال بين ما يدعو إليه القرآن وبين حال المسلمين؟
إن الجهل بقيمة الآثار يؤشر على نفس عاجزة عن صناعة الحياة، غير قادرة على مواكبة مسيرة المعرفة الإنسانية، وغافلة عن التقاط آيات الله في الأرض والاعتبار منها، هذا الجهل هو إعلان صريح للعجز عن أداء دور حضاري في الأرض ، وهو كاشف للفجوة الحضارية بيننا وبين الأمم الأخرى التي سخرت كنوز الأرض فامتلكت القدرة على صناعة الحياة وتطويرها.
لا يمكن فهم الاستهتار بالآثار بمعزل عن فقدان قيمة الحياة ذاتها، فالذي يدمر الآثار هو ذاته الذي يبدد الموارد الطبيعية ويفسد في الأرض ويقطع الأشجار ويخرب البنيان، هو ذاته الذي يستهلك ولا ينتج، ويؤثر الكسل على العمل، كل هذه المظاهر المتعددة ترجع إلى مشترك جوهري واحد وهو أن هذا الإنسان عاجز عن الخلق والإبداع، انطفأ في قلبه الشغف بالحياة والتجدد الإيماني، وغدت علاقته بالحياة علاقة عدوان وإفساد بدل أن تكون علاقة إقبال شاعري وإصلاح.