يمثل الجهاد أحد أكثر المفاهيم الدينية التباساً سواءً في مستوى نظرة المسلمين إليه أو غير المسلمين، فعلى الصعيد الداخلي يعد الجهاد ذروة سنام الإسلام وهو فعل يحظى بجاذبية خاصة للمؤمنين ويقع منهم موقع التقدير والإعجاب، أما في المستوى الخارجي فهو مفهوم مثير للجدل لأنه يرتبط بالعلاقة مع غير المسلمين ويمس حياتهم.
سألتني سيدة إسبانية ذات مرة عن مفهوم الجهاد وكيف أنه يخالف روح الدين، إذ إن الدين في الثقافة الغربية هو تطهر روحي داخلي بينما الجهاد يشغل المسلمين بمقارعة الأعداء الخارجيين عن تزكية أنفسهم؟
سؤال السيدة مبني على المفهوم الشائع للجهاد والذي يتمثل في العمل العنيف ضد العدو ويمارسه مسلمون بدوافع دينية، لكن التدقيق في معنى الجهاد في القرآن يقودنا إلى نتيجة مختلفة.
الجهاد هو فعل داخل النفس يهدف إلى الانعتاق من أسر الشهوات والرغائب الدنيوية والنفير في سبيل الغايات الأخلاقية النبيلة: "ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة"، وهو مشتق من بذل الجهد ويدخل في تطبيقاته القتال ضد المعتدين لكنه ليس التطبيق الوحيد، فالقرآن يعتبر المجادلة الفكرية نوعاً من الجهاد لأنها تقتضي جهداً في التصدي للشبهات الفكرية وتصحيح المفاهيم السائدة: "وجاهدهم به جهاداً كبيراً".
الجهاد ابتداءً هو روح قبل أن يكون شكلاً خارجياً، فهو يقاس بمدى صدق الفرد واستعداده للبذل في سبيل الله وفي الحديث إن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وكلمة الحق ممارسة سلمية خالصة لكنها تتطلب شجاعةً وتحرراً من الخوف وحب القعود لذلك سميت أعظم الجهاد، أما الشكل الخارجي فهو عمل سياسي يعتمد اختياره على تقدير الظروف و فهم الملابسات والنظر في المآلات، ومن ثم تقرير الشكل الأكثر فعاليةً و الأرجى أثراً وفق معطيات الواقع.
قادت الصورة النمطية الشائعة لمفهوم الجهاد إلى القطيعة بين الفعل الجهادي والفعل السياسي، إذ إن نبل الفعل الذي يؤديه المجاهد وبذله أغلى ما يملك يحرِّج على الناس السؤال إن كان هذا البذل في الميدان الصحيح وما هي النتائج التي تحققت بعد هذه التضحيات، وكثيراً ما يغلق باب النقاش بالقول إن أهل الكلام لا يحق لهم أن يقرروا لأهل الأفعال، أو إن هؤلاء قد بذلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الله فلنكف ألسنتنا عنهم!
في العقود الأخيرة خاض الشباب المتحمس للجهاد معارك كثيرةً، مثل عمليات الجماعة الإسلامية في مصر وعشرية الجزائر وحرب الأفغان والشيشان وتنظيم القاعدة وليس انتهاءً بالصراع السوري، وحالياً تطلق دعوات لفتح باب الجهاد في بورما، وفي جميع هذه المواطن لم يكن ينقص الشباب دافعية جهادية وشوق إلى الحور العين، لكن ما هو المقصد الذي تحقق بعد كل هذه المعارك، ولماذا لم يصبح المسلمون إلى النصر والتمكين أقرب رغم التضحيات والدماء الكثيرة؟
لا شيء أعظم من أن يجاهد الإنسان بعمره وراحته في سبيل غاية نبيلة يؤمن بها، لكن صدق النية لا يبنى عليه صواب القرار دائماً، وفضل المجاهد راجع إلى تجرده وإخلاصه وليس إلى رأيه ودرايته، لذلك لا تناقض أن نعرف للمجاهد فضله وصدقه، وفي ذات الوقت أن نخطئ قراره واجتهاده، فالصدق يعرف بالبذل والعطاء بينما الصواب يعرف بالنتيجة والمآل.
إن التفريق بين روح الجهاد وشكل الجهاد يقود إلى تحرير هذا المعنى النبيل من حالة التصنيم التي تتصدى لأي عملية مراجعة وسؤال عن الجدوى، فروح العطاء التي تنطوي عليها نفس المجاهد مقدرة، أما الترجمة السياسية لهذه الروح فهي فعل بشري ومسؤولية جماعية تخضع للتقويم وإعادة النظر في ضوء مآلاتها والموازنة بين منافعها وأضرارها في الواقع السياسي.
إذا كانت روح الجهاد مقصودةً لذاتها، فإن أشكال الجهاد مقصودة لنتائجها، والبذل ليس هدفاً لذات البذل إنما حين تسد الطرق الأقل تكلفةً، لكن ما دام في الإمكان قراءة الواقع وتقدير سبل أقل إرهاقا واستنزافا لتحقيق ذات الأهداف السياسية أو إذا قاد التقدير إلى أن العمل المسلح لن يحقق مكاسب سياسيةً في ضوء اختلال معادلة القوى فإن الحكمة هنا تقتضي تجنب العمل المسلح دون أن يعني ذلك تخلياً عن الجهاد، إذ إن كل عمل تتوفر فيه مجاهدة النفس يعد جهاداً، ولو كان كلمة حق أو بياناً أو مسيرةً سلميةً.
حين ينفصل الفعل الجهادي عن الوعي السياسي يصير مدخلاً إلى عمل عبثي لا يجنى منه ثمرة سياسية دون أن ينال ذلك من نيات المجاهدين وصدق إخلاصهم، ذلك أن المجاهد في ذروة استغراقه بالعمل الميداني لن يكون قادراً على رؤية الصورة الكاملة ولن يجد متسعاً للتفكير في العواقب السياسية و لن يلتفت إلى ما هو خارج حدود تخصصه الفني وهو ما يؤدي إلى إحباط فاعلية جهده، أو إلى توظيف جهده في غير الوجهة التي يقصدها من قبل أطراف خبيثة.
في ثمانينيات القرن الماضي كانت الولايات المتحدة هي الراعي الرسمي للجهاد في العالم، وقد استقبل الرئيس الأمريكي رونالد ريجين شخصياً المجاهدين الأفغان في البيت الأبيض، وكان مقصده من ذلك دعم المؤمنين المخلصين في مواجهة الاتحاد السوفييتي العدو اللدود للولايات المتحدة آنذاك. هذه القصة آية بينة كيف أن مفهوم الجهاد يمكن أن يستغل من أعتى قوى الشر في العالم في غير وجهته الأخلاقية، وكيف أن حضور الإخلاص دون الوعي يجعلنا في دائرة الاستغلال والتوظيف لا في دائرة المبادرة والتأثير.
إن إحياء منهج المراجعة و التساؤل دائماً عن جدوى المعارك التي نخوضها والبحث في خيارات أقل كلفةً بعيداً عن ضغط الشعارات لا يعني التنكر للجهاد، بل هو إنقاذ لمعنى الجهاد من العبثية ونقل له إلى دائرة الفاعلية والتأثير، فالجهاد روح و المصلحة السياسية عقل فإذا امتزجت الروح بالعقل فقد تحقق المقصد وآتت الجهود أكلها ولم تظلم منه شيئا.
سألتني سيدة إسبانية ذات مرة عن مفهوم الجهاد وكيف أنه يخالف روح الدين، إذ إن الدين في الثقافة الغربية هو تطهر روحي داخلي بينما الجهاد يشغل المسلمين بمقارعة الأعداء الخارجيين عن تزكية أنفسهم؟
سؤال السيدة مبني على المفهوم الشائع للجهاد والذي يتمثل في العمل العنيف ضد العدو ويمارسه مسلمون بدوافع دينية، لكن التدقيق في معنى الجهاد في القرآن يقودنا إلى نتيجة مختلفة.
الجهاد هو فعل داخل النفس يهدف إلى الانعتاق من أسر الشهوات والرغائب الدنيوية والنفير في سبيل الغايات الأخلاقية النبيلة: "ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة"، وهو مشتق من بذل الجهد ويدخل في تطبيقاته القتال ضد المعتدين لكنه ليس التطبيق الوحيد، فالقرآن يعتبر المجادلة الفكرية نوعاً من الجهاد لأنها تقتضي جهداً في التصدي للشبهات الفكرية وتصحيح المفاهيم السائدة: "وجاهدهم به جهاداً كبيراً".
الجهاد ابتداءً هو روح قبل أن يكون شكلاً خارجياً، فهو يقاس بمدى صدق الفرد واستعداده للبذل في سبيل الله وفي الحديث إن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وكلمة الحق ممارسة سلمية خالصة لكنها تتطلب شجاعةً وتحرراً من الخوف وحب القعود لذلك سميت أعظم الجهاد، أما الشكل الخارجي فهو عمل سياسي يعتمد اختياره على تقدير الظروف و فهم الملابسات والنظر في المآلات، ومن ثم تقرير الشكل الأكثر فعاليةً و الأرجى أثراً وفق معطيات الواقع.
قادت الصورة النمطية الشائعة لمفهوم الجهاد إلى القطيعة بين الفعل الجهادي والفعل السياسي، إذ إن نبل الفعل الذي يؤديه المجاهد وبذله أغلى ما يملك يحرِّج على الناس السؤال إن كان هذا البذل في الميدان الصحيح وما هي النتائج التي تحققت بعد هذه التضحيات، وكثيراً ما يغلق باب النقاش بالقول إن أهل الكلام لا يحق لهم أن يقرروا لأهل الأفعال، أو إن هؤلاء قد بذلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الله فلنكف ألسنتنا عنهم!
في العقود الأخيرة خاض الشباب المتحمس للجهاد معارك كثيرةً، مثل عمليات الجماعة الإسلامية في مصر وعشرية الجزائر وحرب الأفغان والشيشان وتنظيم القاعدة وليس انتهاءً بالصراع السوري، وحالياً تطلق دعوات لفتح باب الجهاد في بورما، وفي جميع هذه المواطن لم يكن ينقص الشباب دافعية جهادية وشوق إلى الحور العين، لكن ما هو المقصد الذي تحقق بعد كل هذه المعارك، ولماذا لم يصبح المسلمون إلى النصر والتمكين أقرب رغم التضحيات والدماء الكثيرة؟
لا شيء أعظم من أن يجاهد الإنسان بعمره وراحته في سبيل غاية نبيلة يؤمن بها، لكن صدق النية لا يبنى عليه صواب القرار دائماً، وفضل المجاهد راجع إلى تجرده وإخلاصه وليس إلى رأيه ودرايته، لذلك لا تناقض أن نعرف للمجاهد فضله وصدقه، وفي ذات الوقت أن نخطئ قراره واجتهاده، فالصدق يعرف بالبذل والعطاء بينما الصواب يعرف بالنتيجة والمآل.
إن التفريق بين روح الجهاد وشكل الجهاد يقود إلى تحرير هذا المعنى النبيل من حالة التصنيم التي تتصدى لأي عملية مراجعة وسؤال عن الجدوى، فروح العطاء التي تنطوي عليها نفس المجاهد مقدرة، أما الترجمة السياسية لهذه الروح فهي فعل بشري ومسؤولية جماعية تخضع للتقويم وإعادة النظر في ضوء مآلاتها والموازنة بين منافعها وأضرارها في الواقع السياسي.
إذا كانت روح الجهاد مقصودةً لذاتها، فإن أشكال الجهاد مقصودة لنتائجها، والبذل ليس هدفاً لذات البذل إنما حين تسد الطرق الأقل تكلفةً، لكن ما دام في الإمكان قراءة الواقع وتقدير سبل أقل إرهاقا واستنزافا لتحقيق ذات الأهداف السياسية أو إذا قاد التقدير إلى أن العمل المسلح لن يحقق مكاسب سياسيةً في ضوء اختلال معادلة القوى فإن الحكمة هنا تقتضي تجنب العمل المسلح دون أن يعني ذلك تخلياً عن الجهاد، إذ إن كل عمل تتوفر فيه مجاهدة النفس يعد جهاداً، ولو كان كلمة حق أو بياناً أو مسيرةً سلميةً.
حين ينفصل الفعل الجهادي عن الوعي السياسي يصير مدخلاً إلى عمل عبثي لا يجنى منه ثمرة سياسية دون أن ينال ذلك من نيات المجاهدين وصدق إخلاصهم، ذلك أن المجاهد في ذروة استغراقه بالعمل الميداني لن يكون قادراً على رؤية الصورة الكاملة ولن يجد متسعاً للتفكير في العواقب السياسية و لن يلتفت إلى ما هو خارج حدود تخصصه الفني وهو ما يؤدي إلى إحباط فاعلية جهده، أو إلى توظيف جهده في غير الوجهة التي يقصدها من قبل أطراف خبيثة.
في ثمانينيات القرن الماضي كانت الولايات المتحدة هي الراعي الرسمي للجهاد في العالم، وقد استقبل الرئيس الأمريكي رونالد ريجين شخصياً المجاهدين الأفغان في البيت الأبيض، وكان مقصده من ذلك دعم المؤمنين المخلصين في مواجهة الاتحاد السوفييتي العدو اللدود للولايات المتحدة آنذاك. هذه القصة آية بينة كيف أن مفهوم الجهاد يمكن أن يستغل من أعتى قوى الشر في العالم في غير وجهته الأخلاقية، وكيف أن حضور الإخلاص دون الوعي يجعلنا في دائرة الاستغلال والتوظيف لا في دائرة المبادرة والتأثير.
إن إحياء منهج المراجعة و التساؤل دائماً عن جدوى المعارك التي نخوضها والبحث في خيارات أقل كلفةً بعيداً عن ضغط الشعارات لا يعني التنكر للجهاد، بل هو إنقاذ لمعنى الجهاد من العبثية ونقل له إلى دائرة الفاعلية والتأثير، فالجهاد روح و المصلحة السياسية عقل فإذا امتزجت الروح بالعقل فقد تحقق المقصد وآتت الجهود أكلها ولم تظلم منه شيئا.
شارك
المزيد من هذا الكاتب
