في ما أضحى يسمى "الأزمة
الخليجية" كثيرة هي المواقف التي تستدعي الانتباه والتقييم، لكن موقف المملكة
السعودية هو ما يسترعي اهتماما أكبر، ليس فقط لكونه يختلف عما هو سائد في مواقفها السابقة وربما يعلن عن تغيير عميق في محددات المواقف مستقبلا، ولكنه في الواقع موقف صادم بكل المقاييس. جاء هذا الموقف غريبا وغير متناسب مع حجمها إقليميا ودوليا، حاملا كل علامات التسرع بشكل يسمح بالقول إنه غريب شكلا ومضمونا. لنترك للمختصين في السياسة الدولية والقانون تقييم هذا الموقف، ولنهتم في هذا السياق بدلالته وآثاره المباشرة على الرأسمال الرمزي الذي تتمتع به، وهو أهم جانب عملت عليه المملكة منذ نشأتها، ولا يبدو أنه قد أخذ بعين الاعتبار في تشكيل المواقف الاخيرة في هذه الأزمة.
سواء تعلق الأمر بموقعها الجغرافي الذي يضم الحرمين الشريفين، أو كان الأمر متعلقا بالسياسة الرسمية للمملكة منذ نشأتها، راكمت المملكة ما يمكن اعتباره رأسمالا رمزيا في قلوب كل المسلمين؛ تمكنت بفضله من نيل احترامهم شرقا وغربا وعلى اختلاف ألوانهم، وهو الاحترام الذي ينبع في واقع الأمر من حسن استغلال المملكة مقدراتها وموقعها واعتنائها بكل مل يتعلق بالإسلام، والإسلام السني في العالم. وبصرف النظر عن بعض التيارات الثورية المحدودة هنا وهناك، راكمت المملكة علي مدى عقود الاحترام والتقدير بين مختلف الشعوب الإسلامية، وعملت جاهدة علي تثبيت موقعها كأخ أكبر لكل الأنظمة وكمركز للعالم الإسلامي، ورقما صعبا في كثير من المعدلات الدولية المتعلقة مباشرة بالمسلمين.
بدا هذا الكنز الاستراتيجي للمملكة كرأسمال لا يقدر بثمن، لكونه جعلها في قلب معادلات العالم الإسلامي كمحاور موثوق فيه، وكفاعل على الميدان في فض النزاعات والطريق الأيسر في كل الواسطات والتوافقات التي تتعلق مباشرة أو بشكل غير مباشر بالدول الإسلامية. كانت لها عند المسلمين وعند غيرهم مكانة خاصة، أقلها أنها ممثل شبه رسمي للمسلمين الذين لا يملكون ممثلا رسميا، وأخ أكبر للدول الإسلامية، ومحاور مناسب لغير المسلمين. إنه كنز استراتيجي بكل المقاييس، ورأسمال رمزي قلة من دول العالم تمكنت من اكتسابه. وهي نعمت به على مدى عقود، ومكنها في المقابل من تسيير سياسة خارجية ذات ثوابت ومرجعيات محددة، كما مكنها من بسط سلطتها الرمزية على كثير من المسلمين حتى أصبح لباسها التقليدي هو لباس المسلمين، وأصبحت عادات أهلها وتقاليدهم البدوية عادات العديد من المسلمين حول العالم.
لكن رياح التغيير هبت بعنف، وحملت معها رمال الصحراء المتحركة، وبدا الأمر كما لو أن شيئا ما انقلب رأسا على عقب. إذ بإزاء الصورة التوافقية التي عملت عقودا عديدة على بنائه،ا حلت فجأة وبشكل عنيف صورة أخرى للمملكة في الخليج تدخل في صراع غير مبرر ولا طائل من ورائه مع جارة لها، وتستعمل كل الطرق والوسائل من أجل إجبارها على تغيير مواقفها وإغلاق وسائل إعلامها، وغير ذلك من الطرق الرخيصة التي تمتنع أصغر الدول عن استعمالها من أجل الوصول إلى غايات هي بدورها لا طائل من ورائها، ولا تشكل مقتضيات أساسية لمجالها الحيوي، وتجبر أو تشتري مواقف دول لا ذكر لها على خريطة تحالفات العالم، وتنخرط في حرب إعلامية تزرع كراهية غير مجدية للجميع. وبعبارة واحدة: تتوارى المملكة العربية السعودية بكل عمقها الجيوسياسي وراء منازعات واهية ولا مبرر لها، وعبر وسائل بلا قيمة، وتنخرط في أحلاف لا يمكنها بحكم حجمها الاستفادة من الفتات الذي تتصارع عليه. تبدو المملكة كما لو أنها آثرت التخلي عن كنزها الاستراتيجي من أجل صراعات محدودة وظرفية وبلا طائل وغير مثمرة مباشرة أو غير مباشرة لها. تبدو وكأنها اختارت التسليم في هذا الكنز الاستراتيجي من أجل فتات وبلا مبرر.
لكن المملكة لم تضحي فقط كنزها الاستراتيجي، ولكن أيضا رأسمالها الرمزي وهذه خسارة لا قيامة منها؛ لكون هذا الرأسمال لا يقدر بثمن وهو يحتاج عقودا لبنائه. المملكة خسرت هذا الرأسمال في هذه الأزمة بشكل شبه تراجيدي، وكلما طال أمد الأزمة فإنها في النهاية ستجد نفسها في وضع جديد مختلف تماما لكونها شكلا ومضمونا أنفقت كل رصيدها من الثقة والاحترام. على وجه التفصيل، فإن إثارة المشكلة نفسها تطرح سؤالا بشأن التزام السعودية بوحدة الصف الإسلامي، فضلا عن العربي، وعما إذا كان مجرد التفكير في
حصار قطر لا يمكنه ان يكون الا خسارة بلا رجعة لسند استراتيجي ذي قيمة كبرى لها. كذلك فإن نشأة الخلافات لا يجد طريقه للحل إبدا بهذه الطريقة في الحصار. فعليا، شكل الحصار كشف عن وجه شرس في الخصام؛ لا نقول إنه تجاوز القانون الدولي فقط، بل تجاوز شيم الأخلاق الإسلامية، وبدا الأمر وكأنه انتقام شرس وبلا مبرر؛ بشأن خلاف قابل للحل بأي طريقة تفاوضية كانت. لكن المملكة ليس فقط استعملت حججا واهية في إعلان خلافها، بل طرقا وأساليب لا تتناسب مع طبيعة الخلاف وغير شرعية دينا وغير مشروعة قانونا؛ مست جميع المواطنين وأثر في حياة الناس اليومية. هذا السلوك يستهلك من رأسمال المملكة الرمزي وتضمحل، وبلا رجعة، صورة الأخت الكبرى وحامية المسلمين في العالم وبشكل عنيف ومفاجئ.
مع تواصل الأزمة وضعف الأداء الديبلوماسي وتورطها في أحلاف لا عمق شعبيا لها وقبولها بأجندات معاكسة لما عملت عليه لعقود، تورطت المملكة في نزاع ربما سيفضي إلى حل ما قريبا أو بعيدا، ولكنه مع انقضائه ستجد نفسها قد خسرت كنزها الاستراتيجي، رأسمالها الرمزي، وما تمتعت به من احترام وإجماع بين المسلمين. عند انقضاء الأزمة ستجد المملكة نفسها بازاء خسائر كثيرة تتجاوز بمدى بعيد ما يمكن أن تكسبه من فتات علي مائدة الاحلاف الجديدة. ستجد نفسها، عكس حلفائها، بإزاء جهد مضاعف لإعادة هذه الرمزيه وهذا الإجماع، ولكن هذه المحاولة الجديدة لن تجد صدي لكون الرأسمال الرمزي غير قابل للتعويض.
مهما كان شكل الحل، وإزاء الموقف المتعقل لقطر، وبالنظر إلى إسقاط حلفائها الجدد للمكون الرمزي من حساباتهم لكونهم يفتقدونه ولا يسعون إلى بنائه، ستجد المملكة نفسها قد خسرت كثيرا وأنها خسرت أكثر بكثير من حلفائها لكونها في غفلة من الزمن زج بها في مواجهة يائسة وبلا طائل؛ خسرت فيها ما يتجاوز المال بكثير: رأسمالها الرمزي.