التمهيد:
لو ذهبنا في قراءة تاريخية للعلاقة ما بين السعودية وقطر، لوجدنا أن الحصار الذي تضربه السعودية وحلفاؤها على قطر؛ ليس بأول حصار، فالحصار الأول كان بعد ترسيم الحدود عام 1965، حيث قامت السعودية والإمارات بإبرام اتفاقية حول ترسيم الحدود فيما بينهما، تنازلت الإمارات للسعودية ضمن هذا الاتفاق عن أراض لها تقع على الحدود مع قطر، فأسفر هذا التنازل عن إيجاد منفذ بري واحد لقطر، وهو معبرها مع السعودية. وقد اعتبرت قطر هذا الاتفاق حصارا لها ولم يعجبها الأمر، إلا أن العلاقة استمرت بتوازن.
أما في العام 1992، فحصل اشتباك على الحدود السعودية القطرية وسقط فيه ضحايا من الطرفين. وقد سميت هذه الحادثة بمعركة الخفوس، والتي انتهت بسيطرة القوات السعودية على منطقة الخفوس. ربما هذه الحادثة التي كادت أن تؤدي إلى احتلال قطر كانت إشارة تنبيه لهم من السعودية.
وفي العام 1996 حدثت محاولة انقلاب في قطر، والتي اتهمت حينها النظام السعودي بأنه وراء هذه المحاولة.
وفي العام 2014 قامت السعودية، وبمعيتها الإمارات والبحرين، بسحب سفرائها من قطر، وذلك لاتهامها بأنها تتدخل في شؤونهم الداخلية واستضافتها للقرضاوي.
هذا التاريخ من الخلافات جعل قطر تعد عدتها لأيام عصيبة يمكن أن تمر عليها من جارتها السعودية. ولكن دولة بحجم وجغرافية قطر ما الذي تستطيع فعله أمام السعودية؟ فلا مقومات بشرية ولا جغرافية تؤهلها للدفاع عن نفسها إذا ما حدث تدخل عسكري سعودي؟ فأخذت على عاتقها اللعبة السياسية والدبلوماسية وإقامة التحالفات مع الدول الكبرى. فأقامت تحالفا عسكريا مع الولايات المتحدة الأمريكية لإقامة قاعدتي السيلية والعديد، مما جعلها تتمتع بمكانة أمنية وعسكرية وسياسية لدى الأمريكان مما أتاح لهم الأمان من أي تدخل عسكري سعودي فيها.
ومع وصول حمد بن خليفة للحكم، بعد انقلاب أبيض على والده أخذ بتطوير سبل الحفاظ على بلده من خلال تطوير العلاقات السياسية والدبلوماسية المعقدة، حيث استطاعت قطر بسياستها هذه أن تجمع المتناقضات معا. فقد استطاعت أن تبني صرحا إعلاميا، وهو قناة الجزيرة، والذي يمكن أن نطلق عليه الجيش الأول في قطر. فالجزيرة هي أحد العوامل التي أوجدت لقطر دورا أساسيا في المنطقة، وذلك لما للجزيرة من تأثير على الشارع العربي.
ومن جهة أخرى، أقامت قطر علاقة مميزة مع حزب الله وإيران والتي استمرت حتى الأزمة السورية. فكونت علاقات متينة أمريكيا وإيرانيا في نفس الوقت، وهكذا استطاعت أن تضع لها موطئ قدم في لبنان مقابل النفوذ السعودي المتمثل بالحريري. أما التناقض الآخر، فكان يتمثل ببناء علاقة طيبة مع الإخوان المسلمين، واستضافة كل من العلامة يوسف القرضاوي وقيادة حركة حماس، وبنفس الوقت قامت قطر بفتح مكتب تمثيل تجاري للكيان الصهيوني (أغلق في عام 2009). هذه التناقضات والعلاقات المعقدة، إلى جانب رأس المال والثروة الطائلة، جعلت من قطر لاعبا محوريا، وأن يكون لها قرارها السياسي المستقل عن السعودية.
واقع الأزمة الحالية:
في فجر الخامس من حزيران/ يونيو الماضي، أعلنت كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر مقاطعتها لقطر، وحصارها بريا وبحريا وجويا، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها، وقامت بتسليم قطر قائمة في الطلبات لإنهاء هذا الحصار، تمثلت في طرد كل اسم مذكور في قائمة الإرهاب التي أصدرتها وتضم 59 اسما، من ضمنهم الشيخ يوسف القرضاوي ووجدي غنيم، والمطالبة بطرد الإخوان المسلمين من قطر وإغلاق قناة الجزيرة، وسحب الجنسيات من كل متجنس يحمل جنسية سعودية أو إماراتية أو بحرينية أو مصرية، وطرد كل من يقع على لائحة الإرهاب الأمريكية. وهنا يجدر بالذكر أنهم لم يذكروا اسم حماس طيلة الأزمة سوى مرة واحدة من قبل عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، والذي أثار تصريحه الشارع الذي أجبره على الصمت وعدم ذكر حماس في الأزمة، وهذا ما يؤكد أن حركة حماس ما زالت تتمتع بحاضنة شعبية كبيرة لا يمكن تجاوزها، ولكن طلب طرد كل من يقع على لائحة الإرهاب الأمريكية هو أداتهم لضرب حماس، فحركة حماس بالنسبة للأمريكان على لائحة الإرهاب..
ومن ينظر إلى هذه الأزمة وتحالفاتها، سيجد أن حلف السعودية يتكون من الإمارات والبحرين ومصر وجزر المالديف وجزر القمر وحفتر في ليبيا ونظام عدن في اليمن، بينما قطر استطاعت أن تعيد فتح الخطوط مع حليفتها السابقة إيران وحليفها التركي الذي دفع باتجاه قطر بشكل كبير جدا، وصل إلى التدخل العسكري وإقامة قاعدة عسكرية في قطر، وقد عززت من تعاونها الاقتصادي والسياسي مع سلطنة عمان، أما الكويت فأخذت موقف المحايد الذي يسعى للوساطة.
التحالف القطري سمح لقطر أن تعزز من مفهوم الصناعة الوطنية، كما أنها فتحت خط استيراد جديد لتعويض المقاطعة السعودية عبر تركيا وإيران، فأغرقت الأسواق بمنتجات تلك البلدين. أما بالنسبة للخطوط البحرية والجوية فقد حولتها باتجاه إيران وعمان، وهذا ما يعزز موقف قطر ويجعلها تناور أكثر، وأن يكون لديها مقومات الصمود أكثر.
كما استطاعت قطر أن تتعامل مع الأزمة بدبلوماسية عالية وبضبط النفس، إلا أنها شنت هجوما معاكسا إعلاميا، من خلال قناة الجزيرة التي هاجمت الدول المحاصرة بشكل حاد ولاذع.
نتائج الأزمة:
إذا ما ذهبنا للنتائج بالنسبة للأمريكان فسنجد أن الأمريكان، وبفضل أخذهم لدور التاجر الشاطر الذي يستثمر أي أزمة لصالحه، تارة يصدرون تصريحات مع قطر وتارة أخرى تصدر تصريحات ضد قطر، وبنفس الوقت أبرمت صفقة تجارية مع السعودية خلال زيارة الرئيس الأمريكي التي سبقت الأزمة بقيمة أكثر من 400 مليار دولار، وباعت لقطر أسلحة بقيمة 12 مليار دولار. ومن الملاحظ أن كل أطراف الأزمة لا يريدون إغضاب الأمريكان.
أما تركيا فقد استفادت بأنها فتحت سوقا تجاريا جديدا لها مع القطريين، واستطاعت أن توجد لنفسها قاعدة عسكرية في قطر، والتي ستعود على تركيا بمصالح كبرى اقتصادية وسياسية وعسكرية، وهي تعد أول قاعدة عسكرية تركية في الخليج منذ انتهاء الدولة العثمانية.
فيقول سعيد الحاج، الباحث المتخصص في الشأن التركي: "تعني القاعدة العسكرية التركية في قطر الكثير لأنقرة على صعيد توسع دورها وتمدد نفوذها في المنطقة، حيث ستمنحها إطلالة على الخليج العربي، ووجوداً عسكرياً مباشراً فيه بكل ما يحويه من مصادر طاقة وتشابك علاقات وتأثير في الاقتصاد العالمي. يضاف ذلك إلى القاعدة التركية الأخرى في الصومال المطلة على خليج عدن، ليعطي صورة أوضح عن القوة التركية المتصاعدة في المنطقة".
وإيران فتحت آفاقا اقتصادية جديدة مع قطر، وحتى سياسية، من خلال فتحها أجوائها وموانئها لقطر، وفتحت قطر أسواقها للمنتجات الإيرانية، ومن جهة أخرى عادت لتعزز العلاقات فيما بينها.
السناريوهات:
سيناريوهات متعددة تنتظرها هذه الأزمة:
فالسيناريو الأول: رضوخ قطر للمطالبات الخليجية. وهذا السيناريو المستعبد. فإذا ما قبلت قطر بمطالب الدول الخليجية فسوف تخسر كل ما بنته. فدون الجزيرة ودون القرضاوي وحماس؛ لم يبق لها أي شيء، وستصبح إمارة تابعة للسعودية بكل قراراتها.
أما السيناريو الثاني: فهو تراجع السعودية والإمارات عن الحصار، وهذا القرار صعب سيجعلهم بموقف لا يحسدون عليه.
أما السيناريو الثالث: فالمتوقع أن يتم التفاهم ما بين الدول الخليجية على نقاط مشتركة بينها، تُخرج كلا الطرفين ببياض الوجه. ومن بين هذه النقاط تقليص العلاقة مع حماس دون طرد القيادة ودون إثارة ذلك إعلاميا، وتقليص العلاقة مع الإخوان المسلمين ولكن دون خروج الشيخ القرضاوي، وربما ستكون هناك قيود على الجزيرة. ولكن إذا ما تم هذا التفاهم، أيضا سيقلص حجم ودور قطر في المنطقة وسيصغر هذا الدور بالتدريج حتى التلاشي.
السيناريو الرابع والأخير: وهو المحتمل، أن تطول هذه الأزمة حتى ما بعد انتهاء الأزمة السورية، والتي ستكون بداية جديدة في المنطقة العربية وستخضع لتقسيمات جغرافية وسياسية جديدة.
الخلاصات:
في النهاية، نجد أن الدول الكبرى في العالم تريد إبقاء المنطقة مشتعلة تستنزف اقتصاديا وسياسيا وبشريا، وإنهاء أي منطومة عربية. فلم تتبق أي منظومة عربية قائمة سوى مجلس التعاون الخليجي، وإذا ما استمرت الأزمة فسوف ينتهي هذا المجلس ويمكن أن ينقسم إلى مجالس.
أما إذا ذهبنا إلى القضية المركزية للأمة القضية الفلسطينية، وتداعيات هذه الأزمة عليها، فهنا نرى أن على حركة حماس وكافة قوى المقاومة الفلسطينية ستعمل على إيجاد آلية عمل جديدة لتلافي مشاكل الجغرافيا في الاستضافة والدعم، وذلك من خلال إيجاد حواضن شعبية فلسطينية إلى جانب أي حاضنة عربية أو إسلامية رسمية، والاهتمام بشكل كبير باللاجئيين في الشتات ليكونوا البيئة الحاضنة للمقاومة خارج حدود الوطن، وأن يكونوا مؤهلين لاحتضانها وخط دفاعها الأول.