منذ حوالي أسبوعين، تمت دعوة وفد رفيع المستوى من قيادات
حماس في قطاع
غزة مع بعض قيادات الخارج لزيارة القاهرة، برئاسة يحيى السنوار، وهو مسؤول قطاع غزة في الحركة. ومما رشح عن هذا اللقاء وتسرب عبر وسائل إعلام إسرائيلية بداية ثم وسائل إعلام عربية؛ أن الوفد قابل في القاهرة محمد
دحلان أو من يمثله.
ومحمد دحلان هو الذي حاول وقاد انقلابا على حماس عام 2007 في قطاع غزة، بعد تشكيل حركة حماس للحكومة
الفلسطينية، ولكنه فشل. كما أنه أحد رجالات محمد بن زايد وطريقه في العلاقات مع اليهود، وكان قد اتُهم بقتل ياسر عرفات، حسب أقوال وتصريحات محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية. وهو عدو محمود عباس اللدود، والمنافس على كرسي الرئاسة للسلطة الفلسطينية.
وإن الفريقين (حماس ودحلان) تناقشا أو اتفقا على بنود محددة لإخراج قطاع غزة مما هو فيه من أزمات، اقتصادية أو اجتماعية. وهذا اللقاء يبدو أنه ساهم في حذف اسم حماس من قائمة المطالب التي قدمتها الدول الأربع التي تحارب قطر. فبعد أن كانت مقاطعة حماس والتخلي عنها وطرد قيادتها المتواجدة في الدوحة؛ تحتل أولوية متقدمة في قائمة المطالب التي قدمتها "عصابة الأربعة" لقطر، فوجئنا بحذف هذا المطلب مع صدور وإعلان القائمة الأخيرة للمطالب، والتي تم تسليمها للراعي الأمريكي والوسيط الكويتي.
في البداية لم تؤكد حركة حماس مقابلتها مع دحلان ومجموعته خلال الزيارة للقاهرة، ولم تنف ذلك اللقاء، حتى أكد خليل الحية، نائب مسؤول المكتب السياسي للحركة، أن هناك لقاء قد تم بين الوفد الحمساوي ووفد يمثل دحلان بترتيبات
مصرية، وإن كانت بعض الصحف العربية، وصحف ووسائل إعلام إسرائيلية، قد أكدت أن لقاء مباشرا قد تم بين يحيى السنوار ومحمد دحلان في لقاء مباشر في القاهرة، وقد صدرت بعض التصريحات من قيادات في حماس أن الجانبين (حماس ومجموعة دحلان) قد اتفقا على عدة بنود من أجل تخفيف الحصار عن قطاع غزة، كما صدرت تصريحات أخرى من قاده آخرين أن ما يُتداول ليس إلا أفكارا تم تداولها ولا يصل لمستوى الاتفاق.
فالبعض تحدث عن قيام مصر بتزويد القطاع بالوقود لتشغيل محطة توليد الكهرباء في القطاع - وهذه كانت تهمة اتهم بها الدكتور محمد مرسي عندما شح الوقود في مصر بداية عام 2013 - بالإضافة إلى أن يقوم دحلان بتوفير التمويل اللازم من دول الخليج، عدا قطر، لتحقيق بعض الإصلاحات الاجتماعية، ومن أجل تخفيف الأعباء المعيشية على سكان القطاع. كما ستقوم السلطات المصرية بتخفيف الحصار من خلال تسهيل فتح معبر رفح بشكل دائم قبل قدوم عيد الأضحى المبارك، أي خلال الأشهر الثلاثة القادمة. ويبدو أن ما تم في القاهرة كان اتفاقا، وقد يكون قد تم توقيع وثيقة بهذا الاتفاق؛ لأن الحركة في قطاع غزة، كما تشير وسائل الإعلام، تتحدث عن حركة غير طبيعية هناك وثقة الكثيرين بانفراجة قريبة.
هناك عدة جوانب تجب إثارتها ومناقشاتها تجاه هذا الحدث، وخصوصا والمنطقة تعيش هذه الأزمة الهزلية بين إمارات الخليج، وصراع القنوات الذي يملأ المنطقة ضجيجا، وكأن العالم ليس فيه إلا أبو ظبي وقطر والسعودية. والعالم يضحك علينا، كما قالت مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة، وهي تصف ما يحدث، إنه على أمريكا توظيف ما يحدث من أجل ابتزاز السعودية وقطر معا، والضغط عليهما سوية. وأول هذه الجوانب هو أن ما حدث بين حماس ودحلان يبرره المسؤولون في حماس بأنه ضروري لإنقاذ القطاع وسكان القطاع بعد التصرفات والإجراءات التي قام بها محمود عباس تجاه القطاع والسكان في غزة، مثل تخفيض ساعات تشغيل محطات توليد الكهرباء يوميا، وعدم صرف مرتبات الموظفين في الحكومة، وغير ذلك من قرارات تعسفية بقصد الضغط على حماس لحل اللجنة الإدارية التي تدير قطاع غزة، مع أن حركة حماس كانت قد أعلنت منذ فترة ما أطلق عليها الوثيقة السياسية، والتي تناولت فيما تناولت عدم الإشارة إلى العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين، والتأكيد على أن الحركة هي حركة وطنية فلسطينية، خلافا لما كانت عليه وثيقة التأسيس، هذا بالإضافة إلى قبول الحركة بدولة على حدود عام 1967.
الجانب الثاني، أن تعامل حركة حماس مع الحدث يعيد إلي الأذهان ما كان يحدث خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عندما كنا في عالمنا العربي لا نعرف الأخبار إلا من خلال محطات البث الأجنبية، مثل إذاعة لندن أو إذاعة صوت أمريكا، وكأن الحكام العرب يبخلون على شعوبهم بالحقيقة، وكأنه ليس أمام الشعوب للتعرف على الحقيقة إلا الاتجاه للإذاعات الأجنبية. وهذا كان يحدث ولم تكن وسائل الإعلام والاتصال وشبكة الإنترنت كما هي الآن حيث يستطيع أي إنسان التعرف على أي معلومات دون جهد أو أي تكاليف.
في البداية نفت بعض المصادر القريبة من حماس حدوث اللقاء من الأساس، ثم تحول النفي إلى المراوحة بين التأكيد والنفي، وكأننا نتلاعب بالشعب الفلسطيني وبالشعوب العربية والإسلامية التي تتابع الحركة كرمز من رموز العمل الإسلامي. وأخيرا، أصدرت الحركة ما يؤكد أن اللقاء قد تم وبشكل مباشر بين قيادة الوفد الحمساوي (يحيى السنوار) ومحمد دحلان. وكانت هذه الحقيقة معروفة للصحف الإسرائيلية وكثير من وسائل الإعلام الغربية، والجميع يقرأها ويعرفها؛ إلا قيادات حركة حماس وهي تحاول أن تهرب من الحقيقة وتحاول إخفاءها، وهو تصرف غير معقول ولا مقبول. فإلى متى ستظل قيادات الدول العربية، وخصوصا قيادات الحركات الشعبية، في الانعزال عن الشعوب وعدم احترامهم؟ وماذا كان يضير حركة حماس بالإعلان عن اللقاء طالما تم مع دحلان وفريقه في القاهرة؟ وذلك لأنها سوف تعلن عنه عاجلا أو آجلا عندما يرى المواطنون آثاره على الأرض.. فلماذا التعنت وضياع المصداقية مع الشعوب؟
جانب آخر: هل يعتقد الحمساويون أن إسرائيل والغرب ومن يضمرون لهم الشر في أي مكان؛ قد صدقوا ما أعلنوه في وثيقتهم الأخيرة عن عدم ارتباطهم بالإخوان المسلمين والتنظيم الإخواني، وأنهم أصبحوا حركة وطنية فلسطينية مثل باقي الحركات المقاومة في فلسطين، وأن حماس تقبل حدود 67؟ في تقديري أنهم لم يصدقوا ولن يصدقوا، بدليل ما قاله ترامب في اجتماع الرياض بذكره حماس كجماعة إرهابية مع داعش وأخواتها، وكذلك ما تسرب عن وثيقة مطالب "عصابة الأربعة" من قطر في نسختها الأولى، فقد كانت حماس على القائمة، وذلك تصديقا لقول الله عز وجل في سورة البقرة "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (120). وبالطبع من يسير في ركابهم أيضا لن يرضوا عنك وعما تفعله، حتى لو أضاءت أصابعك شموعا لهم، كما يقول المثل.. فلن يرضوا عنك ولن يصدقوك، ولكنهم سوف يبدأون مع حماس نظامي العصي والجزر. بداية وجدوا منها تنازلا عن الثوابت، وأنها تحولت إلى حركة وطنية فلسطينية وليست حركة إسلامية، كما وجدوا انسحابها عن جذورها، وهي حركة الإخوان التي ساعدتها منذ تأسيسها ودعمتها على مستوى العالم، فكان ذلك هو المدخل الجديد أننا نريد أن نكون سويا مع دحلان ومع عباس ومع الشيطان - والعياذ بالله - من أجل الوطن!!! أي وطن وما شكله وهويته؟ - وسوف أتناول هذه المعاني في صفحات قادمة إن شاء الله - وهذا ما أراه الآن في مقالات بعض القياديين في حماس أننا نريد أن نتجمع بأي شكل من أجل الوطن!!!
ولعلي استطرد هنا وأقول إن هذه النغمة وهذا الادعاء يسري في جسد الكثير من الحركات الإسلامية في عالمنا المعاصر، وكأنهم يجرون بعضهم بعضا في شرق الأمة وغربها، ولا أدري لماذا.. هل طال عليهم الأمد أم أنهم كلّوا من الاضطهاد والتنكيل؟ أم أنهم يستعجلون قطف الثمار؟!!! وتنامت هذه الموجة خصوصا بعد ما أطلق عليه "الربيع العربي"، واعتقاد بعض الحركات أن الوصول الجزئي للسلطة هنا أو هناك؛ نهاية المطاف، والفوز الكبير. وفي الحقيقة إنها لم تكن إلا لسحبهم إلى طريق آخر غير الطريق الأصلي الذي عاشوا فيه وتربوا عليه، وكانوا يصبون إليه. وهنا أذكّر بحديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، والذي نحفظه جميعا: "عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". رواه البخاري.
إذن فالطريق واضح منذ البداية، والهدف في النهاية هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يتم أمره سبحانه وتعالى وليس شيئا آخر.
ولقد ذكرت قبل ذلك أن ما حدث وما تم إعلانه في الوثيقة السياسية المشار إليها أعلاه، والتي أعلنها رئيس المكتب السياسي السابق قبل اعتزاله، هو مجرد الخطوة الأولى على "زحلاقة" التنازلات، والله أعلم أين ستنتهي. وأعتقد أن اللقاء الأخير بين حماس ودحلان في القاهرة هو الخطوة الثانية، وأن ما سيسفر عنه من اتفاقات من أجل تخفيف العبء عن أهل غزة أو تزويد القطاع بتمويل من أبو ظبي بديلا لقطر، وفتح المعبر من جانب مصر للخروج والدخول من وإلى القطاع.. كل هذا وما يعتقده الإخوة في حماس أنهم قد حققوه من أجل حل المشكلة الفلسطينية؛ هو مجرد جزرة بعد عصى أبي مازن محمود عباس؛ بقطع الكهرباء، وتشديد الحصار من جانب مصر. وهنا نلاحظ أن الوثيقة صدرت في أوائل أيار/ مايو 2017 والعصا بدأت في أوائل حزيران/ يونيو بتخفيض الأجور وتقليص ساعات الكهرباء ووقف مرتبات الأسرى ثم كانت الجزرة في لقاء دحلان الأخير كما يظنون. من هنا فأعتقد أن كل ذلك لن يحقق أي شيء، وستظل الأمور كما هي إلا من فتات يوافق اليهود عليها، وسوف يضغطون أكثر وأكثر على حماس وقيادتها. ولا ننسى أن قيادة حماس الجديدة محاصرة أصلا في غزة. من هنا فإن حماس سوف تخسر الكثير من مصداقيتها التي بنتها على مدى السنوات الثلاثين الماضية، ليس أمام الشعب الفلسطيني وحسب، بل أمام الأمة الإسلامية قاطبة.
كلمة أخيرة: أتصور أن الخطأ الأساسي الذي وقعت فيه الحركة هو عندما قامت حماس بالتقدم لتشكيل الحكومة بعد انتخابات 2006. نعم، وقتها قد حققت الحركة فوزا كبيرا في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ولكن أعتقد أن هذه الخطوة لم تكن موفقة، وكان المفترض أن يتم توظيف التأييد الشعبي الذي حصلت عليه الحركة في الانتخابات في ترسيخ الوجود في الشارع وبناء المجتمع بشكل حقيقي؛ كمرحلة من مراحل البناء التي تدعو لها الحركة الإسلامية. كما أعتقد أن الحركة قد نُصحت بذلك، ولكن التبرير بأن الجماهير قد أعطت الحركة الدعم، فكيف التخلي عن مسؤولية تشكيل الحكومة والسلطة التنفيذية؟ نفس المبرر الذي قال به الإخوان من أجل المشاركة في انتخابات الرئاسة في مصر وتحمل المسؤولية التنفيذية، ولم يكتمل بناء المجتمع بالشكل الكامل حسب المنهج المتبع الذي عملوا عليه ما يزيد عن 80 عاما؛ لأن المنهج الذي تتبعه الحركة الأم هو المنهج الذي أتصور أنه المنهج الرباني الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان يجب الالتزام به واتباعه لأنه لن ينصلح حال هذه الأمة إلا كما انصلح به أولها. وهذا لا يعني انسداد الأمل في المستقبل، بل الأمل في الله سبحانه وتعالى دائم ومستمر، ولكننا مطالبون بالعمل وبذل الجهد وعلى كافة المستويات، وعلى الإخوة في حماس التوقف عن تقديم التنازلات والعودة للثوابت والالتزام بها، وان نتيقن أن هذا هو الطريق الوحيد للنجاة في الدنيا والآخرة.
والله المستعان وهو من وراء القصد ويهدي السبيل.