اجتماعيا؛ الصلح خير، لا سيما إذا كان المتخاصمون أبناء وطن واحد، يقتسمون ذات الجغرافيا، وبينهم جيرة ونسب ودم وتعايش مشترك، تماما كما هو الحال في قطاع غزة، بين
حماس وتيار القيادي الفتحاوي السابق محمد
دحلان.
سياسيا؛ ليس كل الصلح خير، بل إن بعض الصلح شر، وذلك عائد للظرف الذي يأتي فيه التقارب الممهد لما يبدو طيا لصفحة الخلاف، تماما كما أوحت لقاءات وفد حماس مع دحلان ومستشاريه في القاهرة.
خط الوصال بدأ خجولا بين حماس ودحلان قبل عدة سنوات، وافتتح بعد عزل الجيش المصري الرئيس محمد مرسي، إذ اشتد حصار غزة بفعل تدمير الأنفاق من الجانب المصري، فبدأت الحوارات مع تيار دحلان داخل قطاع غزة باتجاه المصالحة المجتمعية وتعويض أهالي الضحايا والمتضررين من أحداث الانقسام (منتصف حزيران/ يونيو 2007).
ولمّا وصل الكلام إلى مرحلة المساعدات الإنسانية من خلال الجمعيات والوفود، والعمل على تخفيف آثار الحصار، صارت الخطوات الإنسانية ذات أبعاد سياسية، وهنا تم تشكيل وفد فصائلي مشترك مع شخصيات استشارية مستقلة وازنة لبحث معايير توزيع المساعدات وتخفيف معاناة الناس بعيدا عن الكلفة السياسية والأثمان المتوقعه إزاء التقارب المحتمل.
الألغام تحت الطاولة
في رمضان الصاخب، التقى وفد حماس دحلان، لأول مرة، بعد عشر سنوات على حصار غزة، وبعد أيام على حصار قطر، وهنا بيت القصيد.
ليس لفلسطيني أن يرفض طي صفحة الانقسام التي استنزفت الصورة الذهنية للحالة النضالية
الفلسطينية. وليس لعاقلٍ، بالمقابل، أن يغفل عن التوقيت والظرف المحيط باللقاء الذي يراد له (من طرف دحلان) إشاعة الأجواء الإيجابية، والإشاعة مُعجميا مصدر، فعلها أشاعَ، ومعناها الخبر المكذوب غير المؤكد ينتشر بين الناس!
لم تكسب حماس شيئا من اللقاء، الذي يعتبر ملحقا "غير شرعي" لكل لقاءات المصالحة الفلسطينية السابقة واللاحقة، غير أنها (بقيادتها الجديدة) أرسلت بشكل غير مباشر رسالة تقدير للراعي المصري، تكرّس دورَه، وتبدي استعداد الحركة لإجراءات تساهم في تخفيف آثار الحصار عن أهل غزة.
خسرت حماس جولة اللقاء إعلاميا، فكان الارتباك والمعلومات الارتجالية المتناقضة التي ينفي بعضها بعضا، أبرز ما رُصد في خطابها الإعلامي بهذا الصدد.
على المقلب الآخر، لا يمكن دراسة الحسبة السياسية لفريق دحلان، ضمن حدود القضية الوطنية الفلسطينية، فالرجل ومن يقف خلفه يشكلون مشروعا إقليميا بأذرع دولية، ليس أوله مجموعات الضغط ولوبيات التشويه في عواصم العالم الرئيسة، إضافة إلى دور الإمارات في مصر وليبيا واليمن وتونس، وليس آخر مشروعهم حصار قطر.
أدرك هذا الفريق، بفعل مؤشرات الفشل الذريع للحصار المفروض على قطر، وعلى كل الأصعدة، أن عليه عزل حماس بطرق التفافية أخرى، وإبعادها عن قطر بوصفها سندا سياسيا منصفا يدافع عن الإنسان الفلسطيني وحقوقه من موقع القوة والمكانة الدولية الرصينة الوازنة.
يريد دحلان من اللقاء، المتزامن مع حصار قطر، أن يفتح ذهنَ صانع القرار الحمساوي على محور إقليمي (وهمي) آخر، تفرضه ديكتاتورية الجغرافيا السياسية من جهة مصر، والمال المسيس من جهة أبو ظبي.
ويريد ذات الفريق من اللقاء، أن يفتح في ذهن صاحب القرار القطري استفسارا عن جدوى تحمل الدوحة ضغوط دول الحصار بسبب حماس، بينما الحركة تعيش أجواء إيجابية (الإشاعة سالفة الذكر) مع دحلان، عدو قطر المستجد!
من مكاسب دحلان في اللقاء أنه سيدفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى مزيد من الإجراءات الكيدية ضد حماس (التي التقت عدوه الفتحاوي والسلطوي المزمن)، ما يزيد الضغط عليها أكثر فأكثر، وإرهاصات هذا التوجه بدأت بقطع الرواتب وطلب عباس من إسرائيل تقليص إمدادات الكهرباء لغزة، فضلا عن حجب عشرات المواقع الالكترونية.
مهارة ضرب الأسافين التي يمارسها قادة أبو ظبي وسفراؤهم وبعض مستشاريهم بمزاج عال؛ لن يكتب لها النجاح فلسطينيا، وفقا للتحليل الآني: فحركة بحجم وتاريخ وتجربة حماس لن تقع في مطب كهذا، ومن المؤكد أن كل ما ذُكر بين يدي هذه المادة من محاذير، وغيرها كثير، حاضر على طاولة النقاشات الداخلية للصف القيادي الحمساوي الجديد من جهة، وكذلك على طاولة الاستشارات التي تجمع حماس بحلفائها، وفي مقدمتهم القطريون والأتراك، من جهة أخرى. هذا ليس زمن الارتجال السياسي، وهذه ليست مرحلة العزف المنفرد.
ليس لهذا اللقاء، على الأرض السياسية، ما بعده، وحتى اللحظة ليس في الأفق ما يشي بأن حماس تدرس موقفا جديدا من خصمها اللدود، خاصّة في ظل حصار قطر؛ حيث يتردد اسم دحلان كثيرا، وحيث الدول تزِن مواقفها الحذرة بميزان الذهب، فكيف لحركة مقاومة أن تغامر بصياغة اختراق على هذا الصعيد في وقت صُوّبت عليها بنادق الصيد المملوكة منها والمستأجرة، طالبة رأس حماس، بلسان عربي مبين؟!