ترجمت التغييرات الأخيرة التي شهدتها الحكومة الجديدة في
الجزائر، اتجاه مؤسسة الرئاسة نحو خطة إنقاذ جديدة للأوضاع المالية والاقتصادية.
وأعلن الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، الاستغناء عن رئيس الوزراء، عبد المالك سلال، الذي تولى قيادة خمس حكومات متتالية منذ 2012، وبذلك تكون الرئاسة قد قررت إحداث تغيير جذري في سياسات البلاد
الاقتصادية تحت ضغط الأوضاع المالية للجزائر.
ويترقب متابعون لفحوى مخطط حكومة عبد المجيد تبون في 21 من الشهر الجاري، لتأكيد تحوّل البلاد إلى سياسة تقشف أكثر صرامة.
ولم يظهر من خطاب وزراء الحكومة الجديدة المعينة منذ أقل من أسبوعين، أي تغيير واضح في سياسات الحكومة ضمن ما يعرف بالاستمرارية في تنفيذ مخطط الرئيس، إلا أن إشارات عدة توحي بأن تبون يستعد لوضع خارطة طريق جديدة تنهي ما يسميه مقربوه "الشعبوية" في التعاطي مع الملف المالي.
اقرأ أيضا: حزب جزائري: التغيير الحكومي شابه خلل بتعيين وزير السياحة
وتقلّصت الكتلة المالية للجزائر في احتياط الصرف إلى النصف في خلال ثلاث سنوات ليبلغ حدود 100 بليون دولار، واعتمدت الحكومة في المقابل إجراءات لم تحد من تآكل اقتصادها وخزينتها، وكان خيار سلال في السنوات الثلاث الماضية تقليص فاتورة الاستيراد في مقابل زيادات غير مسبوقة في أسعار المواد الحيوية ووقف سياسة رفع الأجور والتوظيف في القطاع العام.
إلا أن تشديد الإجراءات الاقتصادية التي طالت المستوى المعيشي للجزائريين، لم يحقق التوازن المالي للبلد، وفي ظل الأوضاع الراهنة تحتاج الجزائر إلى سعر ليس أقل من 90 دولارا لبرميل
النفط حتى تحافظ على التزاماتها المالية العادية بدءا من دفع الأجور وضمان كلفة استيراد المواد الغذائية الأولية.
وتعطي تصريحات مدير ديوان الرئاسة الجزائرية، أحمد أويحي، تفسيرا إلى حد ما، لموقف الرئاسة من سياسات سلال السابقة في ظل انسحاب الرئيس بوتفليقة من الإدارة اليومية للسياسة الاقتصادية.
واعتاد أويحي انتقاد ما يسميه "الديماغوجية الاقتصادية" في إشارة إلى رئيس الحكومة السابق، رغم أنه حاول "تلطيف" تلك التصريحات مطلع الأسبوع الجاري قائلا: "تصريحاتي أسيء فهمها، وعندما قلت إنه يجب على الجزائر أن تبتعد عن الديماغوجية والشعبوية قيل إننا نهاجم سلال وننتقد حكومته... لكن هذا غير صحيح".
والديماغوجية التي يقصدها أويحي، تتمثل في الإبقاء مطولا على سياسات "التوزيع المالي" ذاتها لمداخيل البلد لمصلحة المحافظات والجماعات المحلية، كما أنه يقصد المؤسسات الصناعية العامة التي لا تقدر على المنافسة.
ويؤمن أويحي بنظرية يكررها دائما: "أنا ضد رفع الأجور ما دام الاقتصاد الجزائري غير منتج".
فهل صحيح أن الاقتصاد الجزائري لا يزال بعيدا عن الإنتاجية؟
ووفقا لصحيفة "الحياة"، تشير الأرقام الرسمية إلى أن الجزائر لا يزال يعتمد على النفط والغاز في مداخيله بما يمثل 97 في المائة، وراهنت حكومة سلال على الوزير عبد السلام بوشوارب في قطاع الصناعة ضمن سياسة جديدة تلقى من ينتقدها أكثر ممن يشيد بها.
وأوقفت الجزائر حصص توريد السيارات من حدود 400 ألف سنويا إلى أقل من 100 ألف.
اقرأ أيضا: لماذا خفض البنك الدولي توقعات النمو بالمنطقة العربية في 2017؟
وتحت سياسات بوشوارب الذي غادر الحكومة، أنشأت الجزائر على الأقل عشرة مصانع تركيب للسيارات مع علامات فرنسية وألمانية وكورية وإيطالية وصينية، إلا أن الحصول على سيارة جديدة في الجزائر تحول إلى مشقة كبيرة تستغرق شهورا، على الرغم من بدء تلك العلامات عملية التركيب منذ شهور، في مقابل زيادة أسعار المركبات بما يفوق الـ100 في المائة، وهو أمر ينتقده خبراء ويعزونه إلى غياب الشفافية وسيطرة البارونات على الاقتصاد.
وقال الخبير الاقتصادي عبد الرحمن مبتول، إن "هناك معادلة واضحة تجعل النهوض بالاقتصاد أمرا غير ممكن في القريب العاجل"، لافتا إلى "كتلة الإنفاق العام في مقابل عجز الاستثمار العام والخاص عن خلق الثروة".
ومن الواضح أن حكومات سنوات الأزمة، حافظت في شكل مفرط على الإنفاق في قطاعات يعتقد أنها حد فاصل يهدد السلم الاجتماعي، بخاصة سياسة الإسكان والصحة والتعليم، وتحافظ الجزائر على كتلة الأجور ذاتها التي ارتفعت إلى الضعف بين عامي 2008 و2012.
كل هذه المعطيات تجعل من حكومة عبد المجيد تبون، "على الورق"، "حكومة إطفاء" قد تتضح نواياها أكثر مع بدء عرض سياسته أمام البرلمان الجديد في 21 من الشهر الجاري.
ورغم أن تبون سيمرر مشروعه من دون عوائق بوجود غالبية من الموالاة، إلا أن أحزاب السلطة ذاتها اليوم باتت ترفع شعار "إنقاذ الاقتصاد الوطني"، ما يعني توقعها مسبقا لسياسات أكثر تشددا في مجال الإنفاق العام.
وأفسحت الجزائر المجال واسعا أمام رجال الأعمال في صناعة السياسة الاقتصادية الراهنة، وصنع منتدى رؤساء المؤسسات مكانة جديدة كشريك في صياغة قوانين المالية التي تضبط إنفاق البلاد سنويا، إلا أن "هدايا" الحكومة لهذا القطاع لم يقابلها بعد تغير في مؤشرات القطاع الخاص، بالتوازي مع تزايد انتقادات معارضين لدور رجال الأعمال المتهمين باستغلال الظرف لزيادة الثروة.