ثمة، منذ قدم العصور، خطابان متوازيان غالبا ما رافقا صيرورة التكنولوجيا، قبولا بها أو رفضا لها: خطاب متحمس ومنبهر، وخطاب قلق وذو نبرة نقدية. الأول يتباهى بما حملته التكنولوجيات للثقافة والمجتمع، والثاني ينتقدها لأنها "قسمت" المجتمع وركنت الثقافة للهامش.
قد نجد بعضا من الصواب بهذا الطرح كما بذاك، لكنه من المتعذر التوفيق بينهما بحكم حدية الأحكام التي يبني عليها كل واحد منهما منظومته وسياقه في التحليل.
ويبدو لنا أن إحدى السبل المتاحة، منهجيا على الأقل، للتجاوز على "الاحتقان" الملاحظ بين الطرحين، إنما يكمن في الاهتمام ليس بالاستخدامات التي نقوم بها بفضل هذه التكنولوجيا أو تلك، بل بالممارسات الاجتماعية التي تترتب عن التكنولوجيات إياها، أو تخضع لها أو تتأثر بها عند فعلها في المجتمع أو التفاعل معه.
فالتكنولوجيا ليست مستجدات تقنية، سرعان ما يطالها التقادم ويتم التبرم عنها. إنها حمالة تحولات مستدامة وتراكمات عميقة، يطاول مدها ومداها مختلف أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
وعلى هذا الأساس، فإن التكنولوجيا إنما يجب أن تقارب وتساءل في مدى قدرتها وقابليتها للتعامل مع الإشكاليات الكبرى التالية:
+ الإشكالية الأولى ومفادها أن التكنولوجيا، لا سيما تكنولوجيا المعلومات والإعلام والاتصال قد وفرت، ولا تزال توفر حقا للأفراد كما للجماعات، أحجاما ضخمة من المعطيات والبيانات، لا يمكن الحديث عن مجتمع للمعلومات أو للمعرفة في غيابها، أو في عدم توفرها بكثافة.
التكنولوجيا أثرت هنا وبقوة في طرق إنتاج وتوزيع المعلومة والمعرفة داخل المجتمع، وأعادت تشكيل أنماط إنتاج وتلقي وتقاسم المعلومة والمعرفة إياها، في الزمن والمكان. وهو ما لم يكن متاحا من ذي قبل، أعني حينما كانت كل الحركية الاقتصادية والاجتماعية مبنية على الإنتاج المادي الصرف.
+ الإشكالية الثانية وتكمن في خضوع مفهوم "المعنى" ذاته للآنية والسرعة، وتراجع مبدأ التأني في التحليل، أمام هذا الزخم الهائل من المعطيات والبيانات والمعلومات. وهذا يعني، ضمن ما يعنيه، أن علاقة المعنى بالزمن قد طاولها التغير هي الأخرى، نتيجة هذه التطورات التكنولوجية المتسارعة. ولعل إحدى معالم هذا التغير، الانتقال التدريجي من الممارسات القارة والثابتة، التي كانت لازمة الباحثين عن المعنى، إلى الممارسات المتحركة والجوالة، التي باتت تتعامل مع المعنى في كونه معطى جاريا، لا يستاهل التوقف والتأمل كثيرا.
إن التكنولوجيات تجعلنا مرتبطين باستمرار و"طول الوقت"، سواء من خلال شبكة الإنترنت واسعة الانتشار، أو عبر الهواتف الجوالة، أو من خلال شاشات التلفزيون التي تسقينا بالمعلومات على مدار اليوم والساعة.
يبدو الأمر هنا كما لو أن المرء بات في وضعية تابعة حقا، أي أن تيارات المعلومات والبيانات والمعطيات هي التي باتت تجذبنا وتجرفنا، دونما أن تكون لدينا القدرة الكافية على الرد. ويبدو أن سلوك رد الفعل قد بات هو المهيمن، أمام سلوك التفكير المتزن، العقلاني والمرتكز على ضرورة "وضع المسافة" مع الوقائع والأحداث التي تنزل علينا في أشكال خام، غير مهيكلة، غير متناسقة، لا تساعد المرء بالتالي على وضعها في السياق العام.
ويبدو أن هوس السرعة والركض خلف الجديد والمستجد، قد أفقدتنا القدرة على التفكير الهادئ، والقراءة المتأنية، والقدرة على الإمساك بالمعنى في شكله ومضمونه الحقيقيين.
+ الإشكالية الثالثة وترتبط بطبيعة العلاقة التي نسجتها التكنولوجيا الجديدة مع المكان ومع الواقع تحديدا، ليس فقط كمجال مادي ثابت وملموس، بل أيضا كتمثلات، كأحكام ذاتية وكفضاء متموج.
والحقيقة أن هذه التكنولوجيا قد نجحت، وإلى حد بعيد، في خلق عالم "جديد" (العالم الافتراضي) لا يشتغل باستقلالية تامة عن العالم الواقعي، ولا هو صورته المادية حتى، لكنه اندمج في صلبه بالجملة والتفصيل، لدرجة الاندغام معه والانصهار فيه.
بيد أن هذه الحدود بين العالمين، الواقعي والافتراضي، لا تصمد كثيرا عند وضعها على محك الممارسة الاجتماعية. بالتالي، فإن الممارسة الاجتماعية (ولربما أكثر من الاستخدامات) هي التي من شأنها التأشير على طبيعة الارتباط بين هذين العالمين، وذلك حتى بتسليمنا بأن العملية ذات تبعات بنيوية كبرى، لعل أهمها وأكثرها تجليا تراجع معايير التمييز وتدني إمكانات التقييم.
+ أما الإشكالية الرابعة فتكمن في التساؤل عن جوهر وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي من المفروض أن تترتب عن الممارسة التي تخضع لها التكنولوجيا في الزمن والمكان.
فإذا كان من شأن هذه التكنولوجيا أن تقوي العلاقات الاجتماعية بحكم الطبيعة الشبكية التي تنسجها من حولها وفي محيطها العام، فإنها تطرح وفي الآن معا، إشكالية الهوية والخصوصية، لا سيما عندما نجد بالفضاء الافتراضي معطيات عن الحياة الخاصة للأفراد والجماعات أو برامج للتجسس عليهم.
بالمقابل، فإن هذه التكنولوجيا قد أسهمت في تقليص العلاقات المادية المباشرة بينهم، وأزاحت عن علاقاتهم بعد الحميمية الإنساني، وجعلت كل من لا يتوفر على حاسوب، أو هاتف نقال، أو ارتباط بالشبكة، أو حساب على مواقع التواصل الاجتماعي، جعلته مقصيا ومنسيا، لا بل ولا وجود له يذكر بالعالم الافتراضي، ولربما أيضا بالعالم الواقعي.