كثيرا ما يفرض التساؤل التالي نفسه علينا: هل بمستطاع الإعلام والثقافة، باعتبارهما أداتي إخبار، ووسيلتي توعية وتنوير أن يواجها التحديات الكبرى المطروحة على الدول والشعوب؟
إحدى المقاربات المتوفرة، والبسيطة، تحمل لنا أجوبة بديهية بالإيجاب. إذ الإعلام، بكل أنواعه وأشكاله، كما الثقافة بكل روافدها وأشكال تعبيراتها، إنما هما عنصرا تنوير بامتياز. إنهما يقربان المعلومة والمعرفة، ويجعلانهما في متناول المتلقي من خلال حوامل شتى وبنى تقنية مختلفة.
بيد أنه لو تسنى لنا الإجابة على هذا التساؤل، بمقاربة مختلفة، لوقفنا عند تحديين اثنين، لا بد أن يسائلا وبقوة، قدرة الإعلام كما الثقافة على مواجهة القادم من تحديات:
+ التحدي الأول ويحيل على ما بات يسمى منذ مدة بـ"الغزو الإعلامي والثقافي". وهي إشكالية مركبة كتب فيها وحولها الكثير، ثم هدأت الكتابات كما لو أن الأمر كان مسألة عابرة أو ذات راهنية في حينه فقط.
إن القصد، بهذه الجزئية، إنما القول بأن ثمة حقا لاتوازنا جوهريا وعميقا على مستوى الإنتاج الإعلامي والثقافي، يجعل من البعض منتجين، فيما البقية الباقية مجرد مستهلكين. الخطر لا يكمن في البعد الاقتصادي أو التجاري للظاهرة، بقدر ما يكمن في مدى مطاولته لمنظومات القيم والرموز والتمثلات لدى أفراد وجماعات البلدان المستقبلة.
إن تيارات المعلومات والبيانات والمعطيات، المقتنية للفضائيات، كما تلك التي تتخذ من الشبكات الرقمية ناصيتها، ليست براء من المنظومة التي أنتجتها وتنتجها. إنها تعبير عن نمط حياة وعن سلوك وعن تمثل للذات وللآخر. ولذلك، فإنها لا تتعامل معها إلا في كونها كذلك. ثم إن المعارف والتجارب التي تعبر عنها هذه الثقافة أو تلك، إنما هي مصممة لها وبالارتكاز على منظومة معينة هي التي تؤسس لها المرجعية والخيط الناظم.
صحيح أن ما يروج من معلومات ومعارف ومضامين ثقافية لا تخرج، بنظر منتجيها، عن كونها سلعا تنتج لتباع وتستخلص منها هوامش الربح. ولذلك، يقول هؤلاء، فإن وجهتها النهائية هي السوق وليس النفوس ولا العقول. وهو قول غير دقيق، لأنه حتى لو سلم المرء جدلا بأنها سلعا، فهي ليست كباقي السلع...إنها "سلع" من خاصية فريدة، كونها تخاطب مجال الأفكار وتلج منظومات القيم حيثما كانت ووجدت...إنها "سلع إدراكية"، يقول البعض.
ولذلك، فأطروحات من قبيل "المجتمع الإعلامي الكوني"، و"مجتمع الإعلام الكوكبي" و"القرية الكونية الواحدة" إنما تنهل في جوهرها، من هذه المنطلقات...إذ غرضها بالمحصلة هو استنبات شروط "سوق كوني"، تلجه المعلومات والبيانات والمعارف والتجارب، كما تلجه باقي السلع الاستهلاكية العابرة. وهو ما لا يمكن أن تسلم منه الروافد الإعلامية والثقافية للبلدان المستقبلة. البعد التنويري للإعلام والثقافة هنا يكون آخر المفكر فيه.
+ أما التحدي الثاني فهو تحدي لغوي خالص. وهي مسألة واسعة أيضا وتحيل على مستويات مختلفة، لا تستطيع مقالة قصيرة أن تحصرها. لكن حسبنا القول هنا بأن اللغة إنما هي المعبر عن الفكر وعن الثقافة وعن المعرفة. عندما تكون لغة ما مهيمنة، في الإعلام أو في الثقافة أو فيهما معا، فمعنى ذلك أنها قد ولجت مجال السلوك ومجال منظومات القيم، فتصبح بالتالي عنصر تهديد ليس فقط بالنسبة لباقي اللغات، بل أيضا لباقي أشكال التعبير والتفكير وتداول الرموز.
المحصلة، بهذه الجزئية، هو أن الإعلام والثقافة المقتنيان للغة غير اللغة المتحدث بها، لا يمكن أن يساهما في عملية التنوير الذاتي، بل يبقيا رهينة عملية "تنوير خارجية" قد تكون سليمة الأبعاد، لكنها غير مضمونة من زاوية النتائج والتبعات.
أن يقرأ المرء بلغة غير لغته، أن يتابع برنامجا ثقافيا تلفزيونيا بلغة غير لغته، كلها عناصر تدفع إيجابا بجهة التنوير. لكنه تنوير من نوع خاص. تنوير من خلال الآخر، من خلال إعلامه وثقافته ومنظومات قيمه.
ولذلك فإن التحديات الراهنة والقادمة (وفي صلبها التحديان المتحدث فيهما أعلاه) إنما تستوجب توافر حد أدنى من الشروط، بإمكانها المساعدة إذا لم يكن لصد مدى التحديات إياها، فعلى الأقل للتخفيف من وطأتها:
+ أولا، يجب على رجال الإعلام كما على رجال الثقافة، أن يعترفوا بدورهم التنويري، ويبنوا رسالتهم على هذا الأساس. لو سلمنا بهذا الشرط، فسنسلم بأن هؤلاء سيعملون على توفير الرسالة قبل التساؤل في سبل ترويجها.
+ ثانيا، يجب أن يتم تكريس الوعي، لا سيما بالدول النامية بضرورة إنتاج مضامين إعلامية وثقافية بمعايير عالمية، حتى تستطيع تعويض تلك التي تغزوها وتخترق منظومات قيمها وتمثلاتها.
+ ثالثا، يجب إيلاء أولوية قصوى للغة. اللغة هنا ليست وعاء، إنها تعبير وتمظهر قوي لمنظومة قيم، لهوية ولحضارة...