الإعلام والثقافة عنصرا تنوير بامتياز، من زاوية تأثيرهما في السلوك العام ومن منظور قدرتهما على مطاولة الأخلاق ومنظومات القيم. وهما عنصرا معادلة لا يستقيم لأحدهما عضد إذا لم يستند على عضد الآخر. إذ الإعلام الآني والعابر لا يؤسس لثقافة، وثقافة متعالية، متخصصة في التنظير العام والتجرد المبالغ فيه، لا تستطيع الوصول للجماهير الواسعة.
بيد أن الأمر لا يتجاوز كثيرا هذه الجزئية، إذ لكل من الإعلام ومن الثقافة زمنه ووظيفته وأدواته في التفاعل والفعل:
+ فزمن الإعلام هو زمن السرعة والآنية، زمن اللحظة، بمنطوق سوسيولوجيا الإعلام. في حين أن زمن الثقافة هو زمن المدى المتوسط والبعيد، مدى استقرار المادة الخبرية واختمارها.
+ وزمن الإعلام هو زمن الإثارة والتشويق، لأنهما جوهر الدورة الاقتصادية والتجارية للمنبر المكتوب، للمحطة المسموعة وللقناة التلفزيونية المرئية، في حين أن رهان الثقافة رهان آخر، مختلف. فهي لا تضع صوب أعينها النفخ في الأحداث، بل تعمل على وضعها في سياقها، على تبيئتها وتشكيل مضامينها.
+ ثم إن زمن الإعلام هو زمن الاستهلاك العابر للمادة الخبرية وللمعلومة بكل أشكالها وأنواعها وأحجامها... في الوقت الذي تعمد فيه الثقافة إلى إعمال مبدأ التراكم الذي هو، بالبداية وبالمحصلة النهائية، تخزين للمعارف والتجارب والقيم والتمثلات..
بيد أن ذلك لا ينفي أن بين الإعلام والثقافة تداخلات كبرى، لا بل قل تقاطعات، تجعل من حقل هذا ينهل من حقل ذاك بهذه الصورة أو تلك. فمادة الإعلام هي نفس المادة تقريبا التي تنطلق منها الثقافة، وإن من زوايا مختلفة. ورسالة الإعلام لا تختلف كثيرا، من زاوية الفعل في السلوك العام، عن رسالة الثقافة... ودور الإعلام يتقاطع كثيرا مع دور الثقافة، من زاوية مواجهة التحديات التي تطرح، أو التي من الوارد أن تطرح، أو التي من المفروض أن يعمد إلى استشرافها، من لدن الإعلاميين كما من لدن المثقفين سواء بسواء.
إن الدور التنويري للإعلام وللثقافة، كان دائما ثابتا لا على مستوى الفرد فحسب، بل أيضا على مستوى الجماعات...بيد أن الحقلان معا أضحيا منذ تسعينات القرن الماضي تحديدا، موضع ثلاثة تحديات كبرى كان عليهما (ولا يزال) أن يرفعانها قبلما يتساءلا في رفع ما سواها من تحديات:
+ التحدي الأول تحد تكنولوجي خالص. وهو تحد يحيل صوبا على الطفرة التكنولوجية التي طاولت ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال، لا على مستوى الأدوات والبنى التحتية فحسب، بل أيضا على مستوى إنتاج وتخزين وتوزيع وترويج واستهلاك المعطيات والبيانات والمعلومات.
لا يمكن للمرء هنا أن يستخلص بأن "الوظيفة التنويرية" التي كانت لدى الإعلام من قبل قد تقلصت أو تضررت أو أصابها العطب... بالعكس، لقد بات فضاء الرواج والترويج للمادة الخبرية أكثر سعة وشساعة. وإذا كان هذا هو حال ومآل الإعلام، بعدما وضع على محك ثورة الشبكات الرقمية، فإن الثقافة بدورها لم تسلم من هذا المحك، على الرغم من أن التأثير كان نسبيا إلى حد ما.
+ التحدي الثاني هو تحد يحيل على ظاهرة العولمة التي طالت الإعلام كما طالت الثقافة سواء بسواء. لم يكن أثر وتأثير العولمة على المسألتين شبيها بالمطلق لأثر وتأثير الثورة التكنولوجية، لكنها (أعني العولمة) ركبت ناصية هذه الثورة لتنتقل بالإعلام من بعد القطري الضيق ليعانق البعد العالمي الواسع، ولتنتقل الثقافة من إطارها القومي الشبه مغلق، إلى عوالم كونية تكاد تنتفي الحدود من بين ظهرانيها بالجملة والتفصيل.
+ أما التحدي الثالث، فهو تحد معرفي بامتياز. ومفاده التساؤل التالي: هل استطاعت الثورة التكنولوجية وظاهرة العولمة حمل بعد تنويري لكل من الإعلام والثقافة؟ أم تراهما بقيا على مستوى القشور ولم يستطيعا النفاذ لجوهر الأمور؟
لا يستطيع المرء التحقق من نسبة ما ينصهر ضمن المعرفة، في ظل هذا الكم الهائل من المعطيات والبيانات العابرة للشبكات ومن ثمة للحدود... لكن الثابت من دراسات أن ما يترسب بالثقافة وبالمعرفة من هذه المعطيات والبيانات لا يتجاوز ال 10 بالمائة، أي أن 10 بالمائة فقط هي التي يخزنها المرء، ويستطيع إدماجها في منظومته الثقافية والمعرفية، والقيمية في نهاية المطاف.
إن تيارات المعلومات والبيانات والمعطيات، المقتنية للفضائيات، كما تلك التي تتخذ من الشبكات الرقمية ناصيتها، ليست براء من المنظومة التي أنتجتها وتنتجها. إنها تعبير عن نمط حياة وعن سلوك وعن تمثل للذات وللآخر. ولذلك، فإنها لا تتعامل معها إلا في كونها كذلك. ثم إن المعارف والتجارب التي تعبر عنها هذه الثقافة أو تلك، إنما هي مصممة لها وبالارتكاز على منظومة معينة هي التي تؤسس لها المرجعية والخيط الناظم.
صحيح أن ما يروج من معلومات ومعارف ومضامين ثقافية لا تخرج، بنظر منتجيها، عن كونها سلعا تنتج لتباع وتستخلص منها هوامش الربح. ولذلك، يقول هؤلاء، فإن وجهتها النهائية هي السوق وليس النفوس ولا العقول. وهو قول غير دقيق، لأنه حتى لو سلم المرء جدلا بأنها سلعا، فهي ليست كباقي السلع...إنها "سلع" من خاصية فريدة، كونها تخاطب مجال الأفكار وتلج منظومات القيم حيثما كانت ووجدت...إنها "سلع إدراكية" بامتياز.