عام 1974 كنت طفلا صغيرا أتوكأ على ثوب أمي، كنا يومها لا نزال نعيش أثار حرب أيلول، يومها قالت لي أمي أريد أن أوصيك بوصية، وبعدما نطقت لي بوصيتها بأيام قليلة ماتت. تلك هي قصة الأجيال
الفلسطينية منذ النكبة وحتى الآن، ولا نزال من فراق إلى فراق، ومن مأساة إلى مأساة.
بالتأكيد، مأساة الشعب السوري مؤلمة وهي مأساة العصر، ولكننا شركاء في مأساتهم، وعندما أسمع عن حلب، أتذكر على الفور
حصار مخيمات الفلسطينيين وحرب الإبادة ضدهم، خصوصا ما فعله الأسد الأب، وتدمير مخيم تل الزعتر في لبنان، وقتل من فيه، ثم تدمير مخيمات بيروت والقيام بمذبحة للفلسطينيين بالتعاون مع حركة أمل، وقبل ذلك المذابح في حق شعبنا من صيدا وحتى طرابلس لبنان. وإذا أردت أن أمر قليلا، سنتذكر طرد الفلسطينيين من العراق بعد ممارسة أبشع أنواع التعذيب فيهم، وخصوصا اغتصاب النساء الفلسطينيات أمام أولادهن في بغداد، وهذه جاءت رواية مسجلة في فيلمي السابق "هجرة خارج المنطق". يضاف إلى ذلك بالطبع هجرات الفلسطينيين الجماعية من دول عربية عديدة.
في
سوريا هناك 700 ألف فلسطيني وأكثر تم تدمير أغلب مخيماتهم، وتم
تهجير عشرات الآلاف إلى خارج سوريا، أغلبهم وصل إلى أوروبا. وهي قصة معروفة، لكنني هنا أود أن أعود إلى مقالي السابق، حيث كتبت أن هناك هدفا إيرانيا مع نظام الأسد لأجل إقامة منطقة آمنة بجانب إسرائيل، وبالفعل بدأ قبل أيام مسلسل تهجير سكان مخيم "خان الشيح"، حيث وصل أغلبهم إلى إدلب. وقصة الترحيل بدأت بعد حصار مرير للمخيم، رغم أن المخيم للمدنيين فقط ولم يكن يضم مقاتلين من المعارضة، حيث تم في الأسابيع الماضية قصف مسجد المخيم، وهناك خسرت صديقي المسالم محمد صلاح، الذي أصابته الشظية القاتلة وهو ساجد في صلاة الفجر.
ما سمعته من الأطفال الذين غادروا مخيم خان الشيح هو تماما ما كنت أسمعه من أطفال مخيم اليرموك عندما كنت في دمشق، وهو "الخبز".. فقط كانت الناس تتمنى رغيف الخبز بسبب الحصار، وهو ما سمعته عبر الراديو في حصار مخيمات بيروت الشهير بين أعوام 1985 و1987، حيث أكل أهالي المخيمات الكلاب والقطط من شدة الجوع.
مزيد من الفلسطينيين الآن يرقدون في شمال سوريا، بعضهم لم يجد إلا الخيام، ومزيد من التشريد، فإلى أين تذهب أيها الفلسطيني؟؟؟
دولة واحدة فقط في العالم تسمح بدخول الفلسطينيين إليها هي فنزويلا، وأما عالمنا العربي والإسلامي لا يزال يترك الفلسطيني معلقا على الأبواب، ولا تزال كل مطارات الدول العربية وغيرها يوجد فيها مئات المعتقلين الفلسطينيين الذين هربوا من جحيم الحرب السورية، ولكن لا أحد يسمح لهم بالعبور، ولا أحد يروي حكاياهم.
أحد الناشطين كتب يرثي قبور الشهداء في مخيم خان الشيح، هذا المخيم الذي خرّج منه مئات الشهداء خلال مسيرة 50 عاما من تاريخ شعب فلسطين، وعندما قرأت مرثيته، تذكرت وصية أمي لي قبل أن تموت.. لقد قالت لي فقط جملة واحدة وهي: أريدك أن تزور قبري..
يا الله... يعلم الفلسطينيون أنهم لن يلتقوا بعد هجرتهم، لذلك يودعون حتى القبور التي لا تتحرك؛ لأنهم يعلمون أنهم لن يروها من جديد.
يا الله... كم هو صعب تحقيق وصية أمي.. لأنه زمن الخذلان..!
(نشر المقال باللغة التركية في صحيفة "دريليش بوستاسية")