أعادت تسريبات الاتصالات بين طيارين أمريكيين وقاعدة بنينا الجوية ببنغازي، جدل علاقة الدول الغربية بعملية الكرامة وعرابها خليفة حفتر إلى مقدمة الأحداث اليومين الماضيين.
التسريبات تكشف عن تنسيق أمني ودعم عسكري أمريكي للقوات التي يقودها حفتر في بنغازي، وربما يكون التنسيق أكبر من ذلك، فما تم تسريبه تفاصيل تتعلق بشحنة أسلحة، غير أن بعض التقارير تتحدث عن دعم لوجستي أكبر.
الجدل يدور حول اتجاه الدور الغربي، والأمريكي تحديدا، وإذا ما كانت واشطن جادة فعلا في بعث الاستقرار في البلاد، باعتبار أن دعم خليفة حفتر يعني إذكاء الصراع السياسي والحرب المشتعلة هناك. أيضا يكشف هذا الدعم عن تناقض في موقف الأمريكان، فهم من جهة يؤيدون الاتفاق السياسي الذي جاء بالمجلس الرئاسي ليكون السلطة التنفيذية العليا، وبالمقابل يدعمون خليفة حفتر وهو العامل الأبرز في عرقلة الوفاق، حيث أعلن صراحة وعلى الملأ عدم اعترافه بالمجلس الرئاسي، وتحدث عن سعيه لفرض سيطرة الجيش التابع له على ربوع البلاد كافة، خاصة العاصمة التي هي في عُرف خليفة حفتر مدينة واقعة تحت سيطرة المليشيات ومختطفة من قبل مجموعات إرهابية.
قناعتي الشخصية أن واشطن ليست داعمة لحفتر على طول الخط، بمعنى أنها لا تخطط لتكرار سيناريو عبدالفتاح السيسي في ليبيا، وبالتالي فإن الدعم العسكري يأتي في سياق تنسيق أمني لمواجهة ما تعتبره الولايات المتحدة أولوية في سياساتها الخارجية، وهو مكافحة الإرهاب وكبح جماح تنظيم الدولة، الذي هو موجود ولو بعدد محدود في بنغازي.
وإذا رجعنا إلى سيرة الولايات المتحدة في العمليات الأمنية والعسكرية التي تنفذها ضد ما تعتبره إرهابا، نجد أنها تقاطعت في العديد منها مع أنظمة وحكومات ليست داعمة لها على طول الخط، ولا يوجد بينهما حلف أو توافق. تكرر هذا في أمريكا اللاتينية، وفي بعض دول آسيا، ورأيناه واقعا في السودان وفي اليمن.
الاعتقاد عندي أن الولايات المتحدة لا ترى الآن في خليفة حفتر حليفا في ظل التوازنات الدولية الراهنة، فحفتر حليف لمصر ويدين لها بالكثير، ومصر اليوم تقترب من المظلة الروسية ومحور موسكو إيران القاهرة، وهو المحور الذي من المتوقع أن يشكل تحديا كبيرا للسياسة الخارجية الأمريكية وللمصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو الأمر الذي أكد عليه برجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر، في لقاء متلفز مع قناة "السي إن إن" الأمريكية الاثنين السابع من الشهر الجاري، وبالتالي سيكون من غير المنطقي اعتبار حفتر حليفا لواشنطن، وأن ما يتلقاه من دعم هو في مسار التمكين له في ليبيا على غرار ما وقع في مصر في يوليو 2013.
أظن أن المقاربة الأمريكية لليبيا تتماهى كثيرا مع الرؤية الأوروبية التي ترفض أن تتحول ليبيا إلى منطقة صراع طاحن، وإلى دولة فاشلة باعتبار أن هذا الفشل سيشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الأوروبي ولمصالح أهم دول الاتحاد ،وفي مقدمتها إيطاليا. ولقد كانت لهجة البيان السداسي الذي ضم الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية الكبرى شديدة، مطالبا القوات التابعة لحفتر بضرورة التراجع عن السيطرة على موانئ النفط الشهر الماضي، الأمر الذي حدى بالأخير إلى أن يسلم إدارتها للمؤسسة الوطنية.
الدعم الأمريكي الأوروبي يتجه إلى حكومة الوفاق، والحوارات مع خليفة حفتر تدور حول دمجه في الوفاق السياسي بشكل يحقق التوازن، فلا يتغول حفتر ليكون الغالب في المشهد، ولا يهمش أو يستعبد فيستمر الصراع ويفشل الوفاق.
الإلمام بالسياسة الأمريكية يكشف أنها لم تكن سعيدة بالربيع العربي، وتسعى إلى احتواء آثاره، خاصة أنها لا تتفق مع التيار الوطني الإسلامي الذي أفرزته الثورة كقوة سياسية وعسكرية حاضرة في ليبيا، وبالتالي فإنها تراهن على حفتر لإيجاد التوازن ومنع التيار الثوري من التحكم في مفاصل الدولة، دون أن يتحكم فيها حفتر كليا، فتجد نفسها أمام شخصية متمردة وغير قابلة للاحتواء ومستعدة لتكون كليا ضمن المحور الروسي الإيراني المصري إذا اقتضى الأمر.