يستحق خطاب مرشحي الرئاسة الأمريكية حول السياسة الخارجية تحليلا يستهدف التعرف على نقاط التشابه والتمايز بينهما. ونحن على أبواب الانتخابات سنحاول رصد أهم ملامح تصوراتهم في هذا المضمار. سأركز في مرحلة أولى على ترامب قبل الحديث عن هيلاري كلينتون. وعموما يمكن تلخيص سياسة ترامب بأنها تجميع المتناقضات، حيث يدعم علاقة مع روسيا في حين يعادي الصين بشكل يمكن أن يؤدي إلى انزلاق خطير في سباق التسلح معها، سياسة متناقضة إزاء طرفين يعتبران أنفسهما حليفين أساسيين. ويريد ترامب تطبيعا مع نظام بشار الأسد لكن يرغب في إلغاء الاتفاق النووي مع حليف بشار الرئيسي في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك يتميز خطابه بشعبوية مفرطة تصل إلى حد تطابق ما يقوله مع ما تريد سماعه داعش. ويمكن مقارنة خطابه وأفكاره مع جيوب محافظة قديمة في الحزب الجمهوري تعود إلى الحرب العالمية الثانية بل أيضا إلى القرن التاسع عشر.
وقد نبه منذ أسابيع قليلة كاتب الرأي المعروف في السياسة الخارجية في صحيفة الواشنطن بوست ديفيد اغناتيو أن دونالد ترامب بصدد التحول إلى وضع "مرشح مسؤول"، مشيرا إلى أنه يخادع الناس. مضيفا: "دعونا نبدأ مع تعليق ترامب في شبكة إن بي سي أنه بعد غزو العراق، فسياسته كان يمكن أن تتمثل ببساطة في "أخذ النفط". وهو ما يتوافق مع نظريات المؤامرة الأكثر تطرفا، في تفسير الغزو الأمريكي للعراق. يقول اغناتيوس: "حجته أن الاستيلاء المباشر والمكشوف على النفط هو هدفه الأساسي وأن ذلك كان سيوقف صعود تنظيم الدولة غير صحيح. بل العكس سيكون ذلك أداة تجنيد".
ومثلما أشارت نشرة "بوليتيكو" هناك أصداء معينة في خطاب ترامب حول السياسة الخارجية لدى السيناتور روبرت تافت، الذي كان يحاول دون جدوى الفوز بترشيح الحزب الجمهوري في سنوات 1940، 1948 و1952، وكان ينظر إليه على نطاق واسع بوصفه قائد الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري. كان تافت يدعم التجاري الانعزالية ومن الذين عارضوا المساعدات الأمريكية لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب، عارض جهود الرئيس هاري ترومان لتدويل التجارة الأمريكية. على الرغم من كونه مضادا للشيوعية، وقال إنه يعارض احتواء الاتحاد السوفياتي، معتبرا أن الولايات المتحدة لديها مصالح قليلة في أوروبا الغربية. وعارض إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي. خطب تافت هي المرة الأخيرة التي قام فيها سياسي أمريكي مؤثر بنقد شامل لحلفاء أمريكا.
نقطة الارتكاز في خطاب ترامب والعاطفة الأساسية التي تحركها هي مشاعر الغضب، ليس على أعداء أمريكا، ولكن على أصدقائها. في مقابلة مطولة مع مجلة "بلاي بوي" في عام 1990، سئل ترامب ما من شأنه أن يحدد السياسة الخارجية. فأجاب: "أعتقد بقوة في القوة العسكرية الكبيرة. وأنه لا يثق بأحد. وقال إنه لا يثق بالروس. وقال إنه لا يثق في حلفائنا. وأضاف أن جزءا من المشكلة هو أننا ندافع عن بعض من أغنى الدول في العالم مقابل لا شيء... يجري الضحك علينا في جميع أنحاء العالم، إذ إننا نقوم بالدفاع عن اليابان".
هذه الفكرة المتمثلة في القيام بدور شرطي العالم بمقابل مادي مباشر ومحدد متأصلة في خطابه على مر السنوات. إذ قال في عام 2013: "إلى متى سنذهب للدفاع عن كوريا الجنوبية من كوريا الشمالية دون مقابل مادي؟ متى يبدؤون الدفع إلينا؟". وقال في مقابلة مع شبكة ان بي سي: "لدينا 28000 جندي على خط في كوريا الجنوبية يقفون بين مجنون وبينهم. لا نحصل عمليا شيئا بالمقارنة مع التكلفة التي يستوجبها هذا التواجد العسكري".
في بعض المسائل، رؤى ترامب تعود إلى أبعد من أربعينيات القرن العشرين، إلى زمن الحمائية الجمركية في القرن التاسع عشر. حتى أنه يستحضر التاريخ الصيني القديم، وقال بيل أورايلي، المذيع المحافظ المثير للجدل في قناة "فوكس"، في أغسطس 2015 أن فكرته لبناء جدار على الحدود الأمريكية المكسيكية مجدية إذ "أنت تعرف، وسور الصين العظيم، الذي بني منذ زمن طويل، هو 13،000 ميل. أعني، تتحدث عن أشياء ضخمة".
في المقابل موقف ترامب من روسيا والذي تم اتهامه بموالاة فلاديمير بوتين، الذي لا يحظى بالتعاطف هنا في الولايات المتحدة، مثير جدا للجدل. من أشهر ما قاله: "أعتقد أن تخفيف التوتر، وتحسين العلاقات مع روسيا، من موقع قوة فقط، ممكن جدا. ويقول البعض إن الروس لن يتصرفوا بشكل عقلاني. أنوي استكشاف ذلك". وقد طرح ترامب فكرة إنشاء تحالف جديد مع روسيا، قائلا إن إعادة العلاقات ضرورية للمساعدة في تخفيف حدة التوتر في سوريا وغيرها. وأرسل بوتين إشارات إيجابية عن ترامب. هذا الدفء بين الرجلين، فضلا عن العلاقات الوثيقة بين موسكو وبعض من كبار مستشاري السيد ترامب، أدت إلى اعتقاد البعض في الولايات المتحدة أن رئاسة ترامب ستكون "نعمة" لبوتين.
في المقابل يتخذ ترامب مواقف معادية تجاه الصين، الحليف التجاري الأساسي للولايات المتحدة. إذ يقول في تصريح مشهور: "مكن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية أعظم سرقة وظائف في التاريخ". وهاجم ترامب الصين باستمرار منذ كلمته الافتتاحية كمرشح، واصفا إياها بأنها واحدة من أكبر خصوم الولايات المتحدة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالسياسة الاقتصادية. وقال إنه أيضا مع توسيع الوجود العسكري للولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي بمثابة رادع لطلبات الصين الإقليمية على الجزر هناك.
بهكذا سياسات متنافرة ولا تعكس استراتيجيا منسجمة تشعل نيرانا في مناطق خطرة وتطفئها في مناطق أخرى ومع وجود مستشارين خطرين مثل جيمس وولسي، الرأس المدبر لغزو العراق، نحن بصدد توليفة شديدة الحساسية. لو كان ترامب رجل أعمال هامشي تحصل على بعض الدعم لكان الأمر هينا. لكن نحن بصدد شخصية تحظى بدعم كبير رغم أن حظوظه للفوز حسب آخر الاستطلاعات لا تزال صعبة للغاية. عموما يمكن اعتبار ترامب، خاصة بوصفه تعبيرة سياسية عن جزء هام من الرأي العام الأمريكي، مثالا على انحدار الوضع السياسي في أمريكا. وهذا لا يعني أن هيلاري تعبر عن سياسة عقلانية تعلمت من دروس وسقطات الماضي. وهو ما سأتعرض إليه في مقال قادم.