كتاب عربي 21

صناع التوحش لهم قبعات متعددة

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
رغم أن الذي قام بعملية ميونخ ليست له علاقة بأي تنظيم راديكالي أو إرهابي، إلا أن المستفيد الرئيس مما حصل في هذه المدينة الألمانية الاستراتيجية هو تنظيم داعش الذي حصل على نقاط لصالحه رغم عدم صلته بما جرى. فحسب تأكيدات الشرطة الألمانية، فإن مرتكب المجزرة شاب ألماني من أصول إيرانية، يعاني من اضطرابات نفسية وعصبية.

أصبح العالم يعيش تحت وطأة الكابوس الداعشي، وذلك مهما كان الحدث، ومهما كانت الجهة الفعلية التي تقف وراءه. إذ منذ أن انتشر خبر سماع إطلاق نار داخل فضاء تجاري بمدينة ميونخ، حتى انطلق فيض من التصريحات والتحاليل التي دار معظمها حول مسؤولية "تنظيم الدولة". الجهة الوحيدة التي تمسكت بالصمت، ولم يصدر عنها ما يمكن أن يشير إلى وجود شبهة هجوم إرهابي هي الشرطة الألمانية التي تعتبر المصدر الوحيد لمعرفة هوية القاتل أو القتلة والكشف عن الدوافع أو تأكيد ارتباطات بجهات مشبوهة أو لا. ورغم أن السلطات الأمنية قد رفضت عدم التسرع بتوجيه أي تهمة ذات طابع سياسي، وهو ما التزمت به أيضا وسائل الإعلام الألمانية، إلا أن الشبح الداعشي بقي يهيمن على المشهد الإعلامي العالمي، وخاصة العربي منه.

يمكن فهم هذه الحالة النفسية الجماعية، وذلك استنادا على النسق المتصاعد للعمليات الإرهابية المفتوحة التي شهدتها عواصم عديدة خلال الأشهر الأخيرة.. وقد تأكد إلى حد كبير وقوف "داعش" وراء الأغلبية الساحقة من تلك الضربات الموجعة، سواء بشكل مباشر أم عن طريق ما يسمى بالذئاب المنفردة التي كلما توفرت لها الفرصة إلا ولم تتردد عن استغلالها دون تردد. وهو نسق مرشح لمزيد من التصعيد في محاولة من تنظيم الدولة للتخفيف من الهجمات الشديدة التي يتلقاها حاليا في أكثر من جبهة.

نجحت "داعش" في أن تجعل خصومها في كل مكان يسهمون بقوة في تضخيمها وتحويلها إلى "أسطورة" تكاد بفضلها أن تحولها إلى "قوة لا تقهر". وقد بلغ ذلك درجة عالية من الأهمية مما جعل كل ما يقال عن داعش يصبح قابلا للتصديق. وهو ما تحاول الأجهزة الدعائية لهذا التنظيم أن توظفه بشكل واسع من أجل إشاعة الخوف لدى الجميع، بما في ذلك التجمعات البشرية التي خضعت لسلطة داعش في كل من العراق وسوريا وإلى حد ما في مدينة سرت وما حولها. 

يعتبر زرع الخوف في نفوس الآخرين من بين أهم الأسلحة المستعملة لضمان سياسة الاستقطاب والتوسع الترابي لدى قادة "داعش ". فهناك عدد واسع من الشباب الذين التحقوا بالتنظيم بسبب اعتقادهم بأن هذه الجماعة قد نجحت فيما فشلت فيه بقية حركات الإسلام السياسي، وذلك عندما أثارت الرعب في صفوف من تصفهم بأعداء الإسلام. ولهذا السبب بالذات لا يرفض هؤلاء مصطلح الإرهاب، وخلافا لما يعتقده خصومهم، فإنهم يعتبرون هذا المصطلح صفة إيجابية وليست قبيحة، ويستشهدون لتأكيد ذلك بجزء من الآية الكريمة التي ورد فيها (ترهبون به عدو الله وعدوكم). 

وبما أن هؤلاء حريصون على التماهي مع الصحابة والتابعين ويعتقدون بأنهم نسخة منهم وامتداد لهم، فإنهم يشبهون أنفسهم بهم، ويذهبون إلى القول بأن ما يحصل معهم حاليا هو تكرار لما حصل من قبل عندما قيل بأن الجيوش الإسلامية السابقة قد انتصر الكثير منها بالرعب نتيجة الترديد الجماعي لشعار "الله أكبر"، أو استعمال عود السواك أو غيره من الأخبار المتفرقة المذكورة في السير وكتب الغزوات. 

هذا الأمر هو الذي يفسر جزءا هاما من استراتيجيات داعش التي استعملت أساليب حرق البشر، وإعدام الأطفال، وصلب المخالفين، وسبي النساء، ودفن الخصوم أحياء، وتصفية أعضاء التنظيم بحجة عدم الطاعة، وهدم المنازل على سكانها، وغير ذلك من وسائل التنكيل والانتقام. وهو ما جعل منهم نمطا من المجتمع والسلطة يزرع الخوف في النفوس مما يشيع الأمل ويوهم بالاستقرار.

بينت حادثة ميونخ أن للقتل أسبابا عديدة وأن القتلة أصناف وأشكال، وأن الكثير من هؤلاء لا علاقة لهم بداعش أو بالقاعدة، وهو ما يقتضي التحرر من هذا الكابوس الذي أصبح يوظف في كل اتجاه ويستعمل لتحقيق أغراض متعددة ومتضاربة. فليس كل إطلاق نار عشوائي سيكون صاحبه بالضرورة من الدواعش، وليست كل طائرة تسقط في البحر يكون سببها فعل إرهابي مثلما تبين مؤخرا بالنسبة للطائرة المصرية. إذ إنه رغم أن تنظيم الدولة يتحدث عن إدارة التوحش، إلا أن صناع التوحش يحملون قبعات كثيرة، ومنهم من هو أنيق وحليق ووسيم ومروج لخطابات جميلة وصانع لأحلام وردية، لكنه مع ذلك منتج للكراهية وخبير في حروب التوحش. 
0
التعليقات (0)