الحزب الذي يطول بقاؤه في السلطة تكثر أمراضه، وينخره السوس والفساد،
ويصبح عبئا على شعبه. هذه قاعدة عامة لا يمكن الاستهانة بها وتشمل كل دول العالم،
أثبتتها وقائع التاريخ وتعدد التجارب. يستوي في هذا الشأن الدول الديمقراطية أو
تلك التي تحكمها أنظمة مستبدة حيث الحاكم المفرد والحزب الواحد. بناء عليه ما حصل
في
تركيا بمناسبة
الانتخابات المحلية ليس مفاجئا ولا غريبا.
ظن حزب العدالة والحرية أن بقاءه في السلطة دائم بعد نجاح رئيسه
أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأيضا صمود الحزب في الانتخابات
البرلمانية. لهذا توقعت قيادته أن الانتصار في البلديات سيكون مضونا وحتميا، لكن
خابت توقعاتها، وحصل العكس تماما، حيث تمكن حزب الشعب العلماني المعارض من
الاحتفاظ بالبلديات التي سبق له أن انتزعها من الحزب الحاكم في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، ولم يكتف بذلك بل نجح أيضا في السيطرة على عدد آخر من البلديات
بعديد المدن. وهو ما شكل صدمة لحزب العدالة والحرية.
يفترض أن تكون السنوات الأربع القادمة قبل مغادرة أردوغان السلطة
نهائيا مرحلة الإصلاحات الفعلية إذا كان الحزب الحاكم ينوي البقاء دورة أخرى في
الحكم. فاعتماده على زعيمه طيلة المرحلة الماضية رهان استنفد أغراضه عمليا
وسياسيا. وهو مرض مزمن تعاني منه كثير من الأحزاب في العالم. عبقرية الزعيم مثل
البطارية تخلص بعد وقت محدد. إذا شاخ الزعيم شاخ الحزب وتعثرت الدولة وقربت
النهاية. المطلوب أن يعود الحزب إلى سياسة الفريق الناجع ومتعدد الكفاءات، وأن
يهيئ نفسه إلى مرحلة ما بعد أردوغان، وأن يعتمد على وجوه جديدة بعد رحلة طويلة في
السلطة انطلقت في سنة 2002 والتي ستستمر أربع سنوات أخرى.
بقدر نجاح المرحلة السابقة على صعيد السياسة الخارجية التي جعلت من
تركيا رقما مهما على الصعيد الدولي، بقدر ما كان اقتصادها يشكو من ثغرات أساسية. إن تقديم السياسي على الاقتصادي يعتبر من الثغرات القاتلة التي أصابت الأحزاب
الحاكمة، ومن بينها تونس. فالمواطن في أي دولة لا يعيش فقط بالشعارات السياسية.
المواطن متعدد الاحتياجات، وعندما يفتقد العديد منها يغضب ويرد الفعل بطرق منها
تبدأ بالامتعاض ثم الغضب ثم النزول الى الشارع، ويتحول أخيرا إلى عقاب انتخابي من
خلال سحب صوته الذي منحه من قبل الى الحزب الحاكم ويمنحه إلى المعارضة أو أن يحتفظ
به. بذلك تتغير موازين القوى وتختل الحسابات الحزبية، وتأتي صناديق الاقتراع لتكشف
المستور، وتوقظ الغافلين.
المطلوب أن يعود الحزب إلى سياسة الفريق الناجع ومتعدد الكفاءات، وأن يهيئ نفسه إلى مرحلة ما بعد أردوغان، وأن يعتمد على وجوه جديدة بعد رحلة طويلة في السلطة انطلقت في سنة 2002 والتي ستستمر أربع سنوات أخرى.
الفساد هو الخطر الدائم الذي يهدد الدول والأنظمة، ويلتهم قوت
المواطنين وقدرتهم الشرائية، خاصة ضعاف
الدخل منهم. ويبدو أن بعض اللوبيات المختفية وراء الحزب الحاكم في تركيا استفحل
أمرها، وأصبحت تشكل خطرا جديا، وآن الأوان لتفكيكها وابعادها عن الدولة وتنظيف
المؤسسات منها.
في الأثناء تقف المعارضة متربصة تتهيأ للمرحلة القادمة. فالهزيمة
التي منيت بها في الرئاسية والتشريعية فعلت فعلها على مستوى القيادات والقواعد،
فغير حزب الشعب قائده، ومارس نقده الذاتي، وعدل من إستراتيجيته حتى يظهر بصورة
مختلفة. وهذا الانتصار العريض الذي حققه في البلديات من شأنه أن يستعيد الثقة في
نفسه ورصيده التاريخي، ويجعله أقدر على قيادة بقة أحزاب المعارضة نحو المحطات
الانتخابية القادمة. ولعل هذه الجرعة القوية من الأمل هي التي دفعت بحزب الشعب الى
المطالبة بتنظيم انتخابات عامة سابقة لأوانها.
تركيا بلد كبير ووازن في الخارطة الإقليمية والدولية. وما حصل فيه لا
يغير من وزنه ودوره وتأثيره. على العكس من ذلك كشفت الانتخابات البلدية عن حيوية
المجتمع وقدرته على توجيه الرسائل مضمونة الوصول في الوقت المناسب. فأغلبية الشعب
أدركت خلال السنة الماضية أن تجديد الثقة في الرئيس أردوغان وحزبه قد يكون فيه
مصلحة البلد في ظل عدم أهلية المعارضة متعددة الرؤوس لقيادة تركيا في هذا المنعرج
الذي تمر به. ثم عاد الشعب ليستفز الحزب الحاكم ويحذره من احتمال الانتقام منه إذا
لم يغير سياسته ويعيد النظر في أولوياته. وهو ما يدل على أن الديمقراطية التركية
بخير رغم بعض الهنات. فالديمقراطية تصحح نفسها بنفسها. وتغيير موازين القوى ظاهرة
صحية في كل الأحوال قد يستفيد منها الحزب الحاكم وأيضا المعارضة، والأهم منهما
والأبقى هو الشعب.