سألني صديق: كيف تفسر وقوف الغزاويين إلى جانب حركة
حماس رغم ما لحق بهم
وبمدينتهم من قتل واسع ودمار غير مسبوق؟ فالمنطق حسب وجهة نظره، يقتضي أنك عندما تقتحم
عرين "الأسد"، وتجره إلى معركة غير متكافئة عليك أن تتوقع منه كل شر
وجنون، وأن تتحمل النتائج التي ستترتب على ذلك.
استفزني سؤال الصديق، فقررت أن أجيبه بمقال يتعدى شخصه ويشمل كل الذين
يلتقون معه في عديد النقاط المشتركة.
لست من الذين يقللون من قوة العدو ويستخفون به، فالكيان الصهيوني أنشئ منذ
البداية ليكون قويا جدا حتى يرعب البقية، وفي مقدمتهم
الفلسطينيون، وتوالت الحروب
والمعارك معه لترسخ هذه الأسطورة وتضخمها. واستمر هذا الحال إلى حدود السابع من
تشرين الأول/ أكتوبر فتغيرت معطيات أساسية في المشهد وفي المعادلة، فالشهور التسعة
التي مرت أثبتت أن هذا الكيان ليس أسدا كما شبهه صديقي مقابل "خرفان".
علينا في ضوء ما حصل أن نحسن اختيار العبارات حتى تصبح المعاني متطابقة مع الواقع
الجديد، لكل مرحلة خطابها ومفرداتها.
لست من الذين يقللون من قوة العدو ويستخفون به، فالكيان الصهيوني أنشئ منذ البداية ليكون قويا جدا حتى يرعب البقية، وفي مقدمتهم الفلسطينيون، وتوالت الحروب والمعارك معه لترسخ هذه الأسطورة وتضخمها. واستمر هذا الحال إلى حدود السابع من تشرين الأول/ أكتوبر فتغيرت معطيات أساسية في المشهد وفي المعادلة
عندما اجتمع قادة حزب الشعب في الجزائر، وقرروا تفجير حرب التحرير في غرة تشرين
الثاني/ نوفمبر 1954، وأصدروا نداء دعوا فيه إلى استقلال بلادهم و"استرجاع
السيادة الوطنية وإنشاء دولة ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية"،
كما أسسوا جبهة التحرير الوطني و"جناحها العسكري المتمثل في جيش
التحرير الوطني"، كانت فرنسا في أوج قوتها وجبروتها، أما هم فكانوا قلة لا
يملكون من شروط المواجهة سوى الإيمان والحماس والإرادة، لهذا قرروا أن تكون ضربة
البداية موجعة لعدوهم. كما أنهم كانوا يعلمون أن حربهم ستطول، وستكون مكلفة وشرسة
وقاسية. وفي النهاية صدقت توقعاتهم، وخابت في المقابل رغبة الفرنسيين في ضم
الجزائر إلى الأبد.
قام المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية
باستطلاع رأي أثبت أن قسما كبيرا من سكان
غزة ما زالوا يفضلون عودة سيطرة حكم حركة
حماس بعد انتهاء الحرب عليه (46 في المئة)، فيما قال 24 في المئة إنهم يرغبون بوجود سلطة
فلسطينية جديدة برئيس وبرلمان وحكومة منتخبين، و21 في المئة يرغبون في عودة السلطة
الفلسطينية الراهنة سواء بوجود الرئيس محمود عباس أو دونه. كما ارتفعت نسبة الذين يؤيدون
الكفاح المسلح في الضفة والقطاع، وتراجع التأييد لمسار المفاوضات كآلية لحل
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وغالبية كبيرة من الفلسطينيين (69 في المئة) تعتبر
أن السلطة الفلسطينية باتت عبئا على الشعب الفلسطيني بعد ثلاثين عاما على إنشائها
وفقا لاتفاقات أوسلو.
نعود إلى السؤال المركزي في هذا المقال: كيف نفسر انحياز الأغلبية إلى حماس؟ العوامل
التالية قد تساعد على الجواب:
أولا: حصول إيمان راسخ لدى عموم الفلسطينيين بأن الأغلبية الواسعة من
الإسرائيليين أصبحت مقتنعة بضرورة ابتلاع بقية فلسطين التاريخية؛ الخلاف بينهم يدور
حول الأسلوب وسرعة النسق، واعتقادهم قائم على القول "تختلف الوسائل لكن الهدف
واحد"، وسرعة الاستيطان ليست سوى مؤشر ضمن مؤشرات عديدة وذات دلالة هامة.
ثانيا: العين بالعين. الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لحماية ما تبقى من الأرض،
فقد انهارت أوسلو بكل ما ترمز إليه، والقطيعة مع العدو بلغت درجة غير مسبوقة حتى
أصبحت ضرورة لا اختيارا. ونظرا لصمود المقاومة كل هذا الوقت، واستمرار قدرتها على
توجيه ضربات قاسية أرهقت العدو وضاعفت من خسائره، وعمقت التناقضات في صفوفه، وعززت
من عزلته، وجعلت منه كيانا منبوذا، فقد اكتسبت نتيجة ذلك تعاطف الغزاويين وغيرهم
من سكان فلسطين.
نظرا لصمود المقاومة كل هذا الوقت، واستمرار قدرتها على توجيه ضربات قاسية أرهقت العدو وضاعفت من خسائره، وعمقت التناقضات في صفوفه، وعززت من عزلته، وجعلت منه كيانا منبوذا، فقد اكتسبت نتيجة ذلك تعاطف الغزاويين وغيرهم من سكان فلسطين
ثالثا: التصاق القيادة بشعبها، وهذا شرط أخلاقي على غاية من الأهمية. لم ينفصل
القادة عن مواطنيهم، فلم يضعوا حدودا طبقية بينهم وبين الناس، وعاشوا وعائلاتهم مع
سكان غزة الحصار وتنكيل السجون وهول الحرب وقسوة التجويع وفقدان الأبناء
والأصدقاء. أما الذين وجدوا أنفسهم خارج غزة فذلك من مقتضيات توزيع الأدوار بين
السياسي والعسكري والمدني، إضافة إلى كون الجميع مستهدفين، فالعدو متربص بالقادة
أكثر من تركيزه على القواعد لهذا نراه يحتفل كلما تمكن من اغتيال أحدهم.
هذه العناصر الثلاثة كافية للدفع بسكان غزة نحو التعلق بحركة سياسية لم يظهر
على مناضليها الخوف والإعياء والرغبة في الاختفاء والاستسلام والمناورة بهدف عدم
تحمل المسؤولية، كما لم يحصل انشقاق في هذا الظرف الصعب، ولم تحصل خيانات في
الصفوف، إلى جانب ما أظهر المقاتلون من شجاعة نادرة في مرحلة تعمقت خلالها مشاعر
الهزيمة، وحافظوا على تعهداتهم والتزاماتهم السياسية مع العالم ومع أعدائهم مثلما
حصل ويحصل في ملف الرهائن.
هذا ليس مدحا بقدر ما هو شهادة للتاريخ واعتراف بالواقع والحق، وعندما يصبح
النقد واجبا فلن نتردد في الإفصاح عنه.