تصدير: "يمكن على الدوام أن نربط عددا كبيرا من البشر في رابطة من الحب، مادام ثمة بشر آخرون يتلقّون تجليات عدوانيتهم" . هومي.ك.بابا، موقع الثقافة، ترجمة ثائر أديب، ص262
ينطلق هذا المقال من ملاحظة عيانية يشترك فيها الكثير من "الإسلاميين" أو من الذين تم تثبيتهم قسريا داخل خانة الإسلاميين رغم كل التحوّلات العميقة التي عاشوها، فصحّت فيهم القولة الشهيرة" والله لو خرجت من جلدك ما عرفتك".
ويمكننا أن نمهّد للإشكالية التي يحاول المقال في جزئيه أن يجيب عنها بالأسئلة التالية: ما الذي يحمل الكثير من المثقفين والسياسيين الذين دافعوا عن الإسلاميين زمن بن علي أو تحالفوا معهم –خاصة في هيئة 18 أكتوبر 2005- أو نادوا بفتح باب النشاط السياسي القانوني أمامهم إلى أن يعبّروا بعد الثورة عن ذلك الكم الهائل من الضغينة ضد النهضويين وغيرهم من حركات الإسلام السياسي، وما الذي تغير حتى يصبح التعاطف ضغينة والتحاور قطيعة ومبادرة 18 أكتوبر 2005 مجرّد أثر بعد عين؟ وهل نحن أمام ردود أفعال عفوية خضعت لإكراهات السياقات الجديدة أم إننا في الحقيقة أمام استمرار للمنطق ذاته لكن بطريقة تبدو في ظاهرها مختلفة رغم أنها في بنيتها العميقة تعبّر عن العقل السياسي نفسه أثناء اشتغاله "البراغماتي"-لا المبدئي- في لحظتين تاريخيتين مختلفتين؟
وجدت
تونس نفسها بعد الثورة في وضعية تاريخية غير مسبوقة منذ بناء الدولة الوطنية التي أعقبت الاستقلال عن فرنسا. كانت هناك عدة عوامل طارئة على المشهد المجتمعي العام في البلاد، وكان من أهمها عاملان. أما العامل الأول فهو هروب رأس النظام وعدم وجود "رأس بديلة" له تكون محلّ توافق –عفوي أو قسري-من طرف الفاعلين الأساسيين داخل المجتمع السياسي أو المجتمع المدني "الثوري". كان غياب "الزعامة" الفردية أو الجماعية "للثورة " عاملا موضوعيا "محايدا"، وكانت القوى الثورية أو الثورية المضادة تستطيع أن تُوظّفه تبعا لاستراتيجيات التحرّر أو إعادة إنتاج الهيمنة.
وأمّا العامل الثاني الذي دخل على بنية المشهد المجتمعي العام، فهو الحضور الإسلامي في الحقل السياسي "القانوني" (حركة النهضة وحزب التحرير وغيرهما) وغير القانوني (خاصة التيارات السلفية بما فيها ذلك التيار "الجهادي" الذي سيتخذ فيما بعد طابعا عنيفا وصداميا ضد الدولة والمجتمع).
في أوائل التسعينات من القرن الماضي، كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد مهّد لدخول المواجهة الشاملة ضد النهضويين عبر بناء سردية سياسية ضُخّم فيها التعارض الماهوي والمطلق مع "الرجعية" و"الظلامية" و"الإرهاب"، وهي سردية طرح نفسه فيها حاميا للميراث الحداثي البورقيبي والإصلاحي بصفة عامة. وقد تكفلت العديد من العقول "التقدمية" و"الديمقراطية" داخل الحزب الحاكم وخارجه بترسيخ هذه السردية التأسيسية للانقلاب النوفمبري.
كان الصراع السياسي آنذاك يُدار على قاعدة "ثقافوية-هووية" تجعل من الإسلاميين –أي النهضويين أساسا- العدوّ المطلق للانتظام السياسي بل للدولة ذاتها، كما تجعل منهم التجسيد الأمثل للشر الطلق والاختلاف الجذري الذي لا يمكن التسامح معه بأي صورة من الصور. فمن البديهيات التي قامت عليه تلك السردية النوفمبرية(أو البورقيبية-الجديدة) استحالة استدماج الإسلاميين في الحقل السياسي وفي الفضاء العام بطريقة لا تنقض "النمط المجتمعي" من أساسه، أي بطريقة لا تمس-واقعيا وبعيدا عن التأنقات اللفظية- بنية السلطة وطبيعتها الزبونية-الجهوية والتراتبية الاجتماعية التي تحرص على إظهارها بمظهر البداهة أو الضرورة، وهي وظيفة أشرفت عليها الكثير من النخب "الديمقراطية" وحرصت على شرعنتها وعلى تأبيدها تحت يافطة "الاستثناء التونسي" بل "المعجزة التونسية".
كانت السردية الحداثية كافية لتجعل من بن علي "منقذا" للعائلة الديمقراطية"، وكانت كافية أيضا لتجعل منه "وكيلها" وواجهاتها المؤسساتية في التصدي للإسلاميين وخطرهم "الظلامي". وقد حرص الرئيس المخلوع على ترسيخ هذه السردية قصد بناء "إجماع" وطني حول شخصه وحول زعامته في الدفاع عن "النمط المجتمعي".
تاريخيا، لم تكن جميع القوى الحداثية مصطفة مع النظام خلال "المحرقة الإسلامية"، ولم تكن أيديها ملوثة بدماء النهضويين، ولكنّ أغلب النخب التي يعتمد رأسمالها الرمزي على "الحداثة" و"الديمقراطية" كانت معادية للإسلاميين ولمشروعهم المجتمعي-الحقيقي أو المتخيل ..فلا فرق- ، وبالتالي لم يكن سقف اعتراض أغلب الأصوات الديمقراطية المتحزبة والمستقلة –إن تجرّأت على الخروج إلى مستوى التصريح وتجاوزت مستوى التواطؤ الضمني - يتجاوز المطالب الحقوقية التي كان منتهاها هو تمتع النهضويين-كأفراد- بأبسط حقوقهم "الإنسانية".
ولم يكن من المطروح إحراج الدولة أو الضغط عليها قصد مراجعة موقفها من النشاط السياسي للإسلاميين، فقد كان إخراج النهضويين من الحقل السياسي القانوني مطلبا جماعيا داخل "العائلة الديمقراطية" المدجّنة منها والتي بقيت ضمن إطار المعارضة الجذرية وغير المعترف بها. فالاختلاف بين جميع مكوّنات "العائلة الديمقراطية" كان فقط في "الكلفة" الحقوقية "المعقولة" لهذا الخيار الاستراتيجي الذي هو محل إجماع بينها.
كان على الإسلامي-وخاصة النهضوي- طوال المحرقة وبعدها أن يقوم- بصرف النظر عن إرادته- بدورين أساسيين في استراتيجيات الفاعلين الفرديين والجماعيين المنتمين إلى "العائلة الديمقراطية". كان عليه أولا أن يكون موضوع "قمع" وتنكيل في المستويين الجسدي والرمزي للبوليس السياسي والأيديولوجي المنوع بين المنابر الإعلامية والثقافية والأكاديمية، وكان على النهضوي-وعلى كل مشتبه فيه بالانتماء أو بالتعاطف- أن يعيش وضعية "ما دون المواطنة" دون أن يكون له الحق في الكلام.
وهذه هي الوضعية التي تَحرم "الكائن" من أبسط حقوقه الأساسية وتجعل منه مجرد هامش لهوامش السلطة التي كانت تتكاثر مع استقرار النظام ونجاحه في تدجين القوى السياسية وقتل الحقل السياسي برمته. وكان على النهضوي من جهة ثانية أن يبقى موضوعا "حقوقيا" –بالنسبة للمنظمات الحقوقية اليسارية أساسا -أو موضوعا للتعاطف "السرّي" في مستوى العلاقات البيذاتية-أي في مستوى العلاقات الشخصية البعيدة عن أعين السلطة وأجهزة رقابتها الأمنية والأيديولوجية-.
وهي علاقات لا يمكن الطعن في صدقيتها ولا في نبل أصحابها ، ولكننا نتساءل عن الدور الحقيقي الذي يمكن أن تلعبه المقاربات الحقوقية والتعاطف الشخصي في استراتيجيات الهيمنة السلطوية، تلك الاستراتيجيات التي كانت تحتاج إلى إيجاد "متنفّس" لضحاياها، كما تحتاج إلى هوامش "مدجنة" للمعارضة قصد مساعدتها على تجاوز أزماتها الدورية بحكم عدم قدرتها-أو عدم رغبتها- في وضع النظام ذاته موضع المساءلة الجذرية.
كان الإسلامي بالنسبة للعقل الحداثي المتعاطف معه "هامشا" يمكن أن نأخذ بيده-من باب المنّة والفضل- ونحسّن ظروفه ضمن الشروط الموضوعية والنفسية لوضعية "ما دون المواطنة" (حتى وان كان مازال يُفكر بمنطق ما قبل المواطنة وبفقه المجتمعات التقليدية)، ولكن لم يكن من المفكّر فيه عند هذا "الحداثي" أن يتحول هذا الهامش المقموع يوما إلى مركز المجتمع أو أن يصبح شريكا/نظيرا/مساويا للنخبة الحداثية، أي لم يكن من المفكر لدى تلك النخب الحداثية "الإنسانية جدا" أن يصبح الإسلامي طرفا من الأطراف المنتجة للمعنى الجماعي المؤسس للانتظام السياسي وغيره، وأن يكتسب "قيمته" من الإرادة الجماعية وصناديق الاقتراع.
أما بالنسبة للعقل السلطوي فقد كان الإسلامي موضوعا مزعجا لصورة تونس في الخارج-أي مزعجا لأصدقاء النظام من المانحين الدوليين-، كما لمكان موضوعا من مواضيع التفاوض مع المؤسسات "الحقوقية" التي ترك لها النظام مجالا محدودا للحركة وذلك خدمة للديكور الديمقراطي الموجّه للاستهلاك الخارجي أكثر مما هو موجّه للداخل المحكوم بآلتي القمع البوليسي والتزييف الإعلامي.
لم يكن الإسلامي في أحسن الأحوال –أي في أكثر تجليات التقارب بين الإسلاميين والعلمانيين في هيئة 18 أكتوبر لسنة 2005- يُشكل خطرا على آليات توزيع الثروات المادية والرمزية ولا على "النمط المجتمعي" الذي هو محل إجماع داخل العائلة الديمقراطية في مستوى الاختيارات الثقافية ، مع اختلاف بينها فقط في مستوى بنية السلطة واختياراتها الاقتصادية.
ولا يمكن للنهضوي -الذي كان شريكا "أقليا" في هيئة 18 أكتوبر- أن ينافس النخبة "الحداثية" في مستوى نصيبها من تلك الرساميل المادية والرمزية، إذ لم يكن من المفكر فيه آنذاك أن يعاد توزيع السلطة والثروة خارج أفق النظام التجمعي، أي لم يكن العقل السياسي يطرح على نفسه أن يتدبر علاقته بالإسلام السياسي ضمن أفق ثوري يسقط النظام الحاكم ويطرد رأسه وأهم رموزه المافيوزية إلى خارج الوطن .
كان النهضوي-والإسلامي بصفة عامة- موضوعا "للإنعام" من طرف القوى الحداثية –فهي تنعم عليه بتبني قضاياه الحقوقية أو بإدخاله ضمن ائتلاف المعارضة من جهة أولى ، وتنعم عليه –من جهة ثانية- عبر السماح له بالاقتراب من الدرجة الصفر للمواطنة -، وكان ذلك كله يُقوي الإشباع النفسي عند النخبة الحداثية-داخل السلطة وخارجها- دون أن يكلفها شيئا من الناحية الاجتماعية. فقد كان ملف الإسلاميين أداة للمناورة بين أجنحة السلطة وتحصين المواقع داخلها –خاصة مع صخر الماطري في أواخر أيام الرئيس المخلوع بن علي- ، كما كان الإسلاميون منذ المحرقة -في أوائل التسعينات من القرن الماضي- ملفا أساسيا في أيدي الجمعيات الحقوقية للنضال ضد السلطة وتحسين شروط التفاوض معها ضمن استراتيجيات تهم القوى الحداثية التقدمية أساسا.
وهو ما يعني أنّ الإسلامي كان في كل الحالات "مدينا" للحداثي-الديمقراطي بوجوده "الفردي" وبكل "التحسينات" التي دخلت عليه قبل سقوط بن علي...إنه "دًينٌ للمعنى" سيتعرض إلى مراجعات كبيرة بحكم تغير الواقع السياسي في تونس بعد الثورة، وبحكم بروز جهة أخرى تعوّض السلطة والنخب الحقوقية على حد سواء: صناديق الاقتراع المعبّرة عن الإرادة الشعبية.
لم يعد الإسلامي بعد الثورة مجرّد "موضوع" للصراع أو التفاوض أو التواطؤ بين النظام و"هوامشه" التي تُسمّى معارضة قانونية أو معارضة راديكالية، ولم يبق الإسلامي "مدينا" في وجوده أو في حقوقه الفردية للنخبة الحداثية داخل السلطة وخارجها، بل أصبح "ذاتا جماعية" لا دين لها إلا تجاه الثورة(بالطبع هو دَين من الناحية المبدئية أو الأخلاقية وليس من ناحية العلاقة الحقيقية التي ربطت حركة النهضة أو سائر الإسلاميين باستحقاقات تلك الثورة) ثم هو دَين تجاه الإرادة الجماعية التي يحتكم إليها الجميع خلال الاستحقاقات الانتخابية البرلمانية والرئاسية.
لقد أصبح الإسلامي بعد الثورة "ذاتا" متكلّمة-لا مجرد موضوع في الخطابات السلطوية والمعارضة- وهي ذات تبدو مستعصية على إعادة الإدماج سواء في وضعية" الذبيحة المقدّسة" التي تمّ تأسيس الاجتماع "الحداثي" عليها زمن بن علي ، كما تبدو مستعصية على الاختزال في ذلك "الموضوع" النضالي الذي اشتغلت عليه الكثير من الجمعيات و الأحزاب "الراديكالية" في عهد بن علي بصرف النظر عن دوافعها الحقيقة من وراء ذلك. وهي وضعية جديدة سنحاول أن نبسط القول فيها طيَّ الجزء الثاني من هذا المقال ، وذلك بالبحث عن الثوابت البنيوية و"المتغيرات" التي حكمت العلاقة بين النخب الحداثية والإسلاميين-خاصة النهضويين منهم- بعد 14 جانفي 2011.