هل يجوز أن نتضامن مع ما نراه قلة أدب وسفالة وانحطاطا ووساخة؟ إجابتي نعم، الأدهى أنني أرى أنه لا يجوز التضامن إلا مع قلة الأدب والسفالة، بالأحرى ما نراه نحن كذلك، أما ما نراه عظيما وكريما ورائعا فمن البديهي أن ننحاز له ونقاتل من أجله لا أن نكتفي بمجرد التضامن!!
ما الذي يعنيه هذا الكلام؟ بص، تعالى نتفق أولا أن تنفق قليلا من مرارتك على هذا المقال، وفي النهاية اعتبره مجرد كلام، كلام مهم، كلام فارغ، بالأخير كلام، لن يقتل متظاهرا، ولن ينتزع سلطانا بقوة السلاح، كلام لن يغتصب فتاة، ولن يحرض على الجريمة قبل وقوعها، ولن "يطرمخ" عليها بعد وقوعها، مجرد كلام، قبوله بكلام، ورفضه بكلام .. كلام!!
ما الذي يغضبك من أحمد ناجي؟ روائي كتب كلام إباحيا، ذكر مواضع الأجهزة التناسلية في المرأة بأسمائها الشعبية، الصحيحة لغويا في أغلبها بالمناسبة، وصف مشهدا جنسيا ساخنا، واعتبر ذلك فنا، وشاركه في ذلك بعض قرائه، فيما اعتبرته أنت ليس فنا إنما قلة أدب، انتهى الموضوع، اكتب غيره، أو اقرأ غيره، لكن أن تتضامن مع منعه، وسجن صاحبه ثم تنسب ذلك لقيمة دينية أو أخلاقية أو حتى حقوقية كما قرأت لأحدهم فهذا ما أخالفك فيه الرأي، والأمر إليك كما اتفقنا.
مبدئيا تعالى نتفق، الدولة لا تحارب الرذيلة، من يقل بذلك إما كذاب أو يكذب عينه،
مصر تُرتكب فيها الرذيلة بالمفهوم الديني للكلمة يوميا، في الشوارع، والميادين، وعلى شاشات التليفزيون، دكاكين السبكي السينيمائية، ومسارح الكباريه، وخلافه، وسواء اعتبرت هذا حق لأصحابه، أم باطلا، فهذا ليس موضوعنا، موضوعنا هو موقف الدول من كل ذلك، وموقفها واضح ومعروف، الموافقة والبصم بالعشرة، ففكرة أن تكون من انصار الدول او النظام وتتزلف لأحدهم نفاقا وتملقا بأنها دولة الفضيلة والحفاظ على الآداب العام، وهذا الجو الرخيص، طبعا غير مقبول، وغير معقول، وغير منطقي، يكفيك مشاهدة مسلسلات رمضان، دون غيرها، لتدرك كم أنت كذاب أو لا مؤاخذة مغفل.
إذن لماذا تسجن الدولة المبدعين، الأسباب كثيرة، أهمها، على الإطلاق، أن توافق "أنت" اليوم على سجنهم، خارج القانون والدستور، فتصبح فكرة تدخل الدولة وفرض مفاهيمها الدينية والاخلاقية مقبولة، ولها أنصار، أنت منهم، حينها لن يكون مستبعدا، أن تتدخل الدولة لتفرض مفهوم علي جمعة عن الدين، ومفهوم عمرو خالد عن الأخلاق، ومفهوم فيفي عبده عن الدولة، ومفهوم السيسي عن الإخوان، ومفهوم أولاد الوسخة عن المذابح (أنا قاصد أفشخ حيائك على فكرة)!!!
رابعة إذن لم تكن مذبحة، خذ عندك، رابعة خطابها كان طائفيا وعنصريا بغيضا ويحرض ضد الأقباط، ويدعو للدولة الدينية، الرجعية الظلامية، المتخلفة، وكل هذه مبررات للتخلص من الإسلاميين، وتطهير الأوطان منهم، إخوان الشياطين، "ناس نيتنة" في الظاهر والباطن، ما رأيك الآن، ألم يكن هذا الكلام الوضيع كلام غير واحد من أشباه الآدميين يوما، وأنت رفضته، واعتبرته كلاما سافلا، فيما كان أصحابه يعتبرونك أنت الوضيع والسافل، نحن هنا أمام اختيارين يا صديقي، إما آلية يتعايش بها السفلة مع بعضهم البعض، أو الحرب، الأقوى يقتل الضعيف، ويكتب التاريخ وحده، باعتباره هو الأعظم، والأطهر، والأنقى، والأكثر دينا، ووطنية، وإخلاصه، فيما يأتي الأضعف في مرتبة الأسفل، والأكثر خيانة .... إلخ الفيلم
الفكرة في المبدأ، أنت مع الحرية، هذا له ثمن، ألا وهو أنك ستتقبل أن يتحرك في المجال العام من تعتبرهم "أغيار"، هم بدورهم مطالبون بالشيء نفسه معك، وإذا كان بعضهم قد وافق على قتلك يوما بيد الدول، فبعضهم الآخر رغم أنه لا يقل كراهية لك بكل أسف عن سابقه، لكنه لم يرض، ولم يزل يقاتل من أجل حقك لا "من أجلك أنت"، لتعيشا معا في دولة، يحكمها القانون لا السيسي.
وبالمناسبة، من نحن سؤال مهم هنا، من أنت؟، لعلك قرأت كلاما فارغا كثيرا في الأيام السابقة عن كتب الفقه المليئة بألفاظ مثل التي كتبها ناجي فزادتك اقتناعا بسلامة موقفك، مشكلة من كتبوا لك هذا الكلام أنهم مزيفون، لم يقرأوا هذه الكتب لكنهم قرأوا عنها، ولذلك لم ينتبهوا لسياق ذكر الأعضاء، والكلام عن الجنس، فمنحوك مبررا إضافيا لاحتقارهم، وازدراء تضامنهم، دعك منهم، هم بالأخير يتحدثون بغضب، لأنك تحرق الدم بصراحة، كل ما حدث لهم ولك في سنواتنا الماضيات ولم تفهم لعبة الدولة المنحطة التي تتاجر بديننا ودنيانا، وتربح، ونخسر جميعا، ما أردت أن ألفت نظرك إليه بالأخير أنك لست أكثر غيرة على دينك، ومجتمعك، ومجالك العام أكثر من أجدادك العظام، أليس هذا كلامك ومعتقدك ومرتكزك الأساسي في التعامل مع الدين، والحياة بشكل العام، تعالى إذن نتحدث على هذه الأرضية، هل تعامل السلف الصالح مع كتابات مثل ناجي كتابة وسياقا ونصا وقصدا؟ الإجابة: بكل تأكيد نعم، طبعا نعم، والمصحف نعم نعم نعم، المشكلة أننا لم نقرأ يا صديقي رغم أن الكتب كثيرة، بالمئات، ووصلتنا، أي أنها لم تُصادر، ولم تُحرق، ولم يتعرض أصحابها للتنكيل، ولا لقضايا الحسبة، ولا للمطالبة بسجنهم، أو جلدهم، أو قتالهم، لأنهم مفسدون، أو إباحيون، أو أي من هذا الهراء، لقد مرت كتب الأدب الجنسي، الإيروتيكي، الإباحي، الفاضح، المبتذل، بل الشاذ، مرت على فقهاء المسلمين "حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي"، على مدى تاريخهم الطويل، دون أن نسمع من أحد له قيمة بينهم اعتراضا على حرية الكتابة أو الإبداع، بل احتواء وفهما، ومجالا عاما مفتوحا لكل ما دون العرش!!
لقد مر على الحضارة الإسلامية، في أقوى عصورها، أدباء وكتاب وشعراء وفلاسفة، بل وقضاة، وشيوخ إسلام، وفقهاء، ومؤرخون، كتبوا عن الجنس وأوضاعه، وأنواعه، وأحوال النساء ومقاماتهن في المضاجعة، وأنواعهن، وأجسادهن، وأعضائهن، وأصواتهن، وتأوهاتهن و ...... وماذا؟
طيب، اقرأ:
رجوع الشيخ إلى صباه، المنسوب لابن كمال باشا، الروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ النفزاوي، نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب للتيفاشي (قاضي القضاة في تونس)، رشف الزلال من السحر الحلال للسيوطي، نواضر الأيك السيوطي، شقائق الاترنج في رقائق الغنج السيوطي، الإيضاح في أسرار النكاح للسيوطي، أنواع الفروج للسيوطي.
رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب، الأس فيمن ولي الوزارة عن طريق الكـ* (كلمة شعبوية صحيحة لغويا تعني الفرج)، الوساطة بين الزناة واللاطة أبو الفرج بن هندو، بالإضافة إلى عشرات الدواوين الشعرية لشعراء مثل أبو نواس، الذي كتب في الخمر والنساء والغلمان، وآخر مثل أبو حكيمة الذي كتب مشروعه الشعري كله في أيره، وكان يقرأ قصائده في مجلس الخليفة الذي يضم من كل صنوف المثقفين، وسط إعجاب الحضور وتصفيقهم، وانفعالهم الذي أثار غيرة أبو تمام، الشاعر العظيم!!
أضف إلى ذلك فصول متفرقة في كتب مختلفة، ليست متخصصة في الجنس بالذات لكنها تتناوله بين موضوعاتها أهمها، على الأقل فيما طالعت، الأغاني للأصفهاني، والإمتاع والمؤانسة للتوحيدي، وغيرهما الكثير ممن لم أقرأ، ولم أحط به!
أخيرا، قرأت كلاما محترما في نقد ما كتبه ناجي ونقد التضامن معه، يقول صاحبه: أن الإباحية في أي دولة أوروبية محترمة محظورة إلا على فئات عمرية بعينها، لأن الدولة عليها أن تحمي دافعي الضرائب، وهو كلام مهم، إلا أن صاحبه تناسى أن هذا هو ما حدث مع ناجي بالضبط، فقد نشر في أخبار الأدب، وهي جريدة نخبوية لا يقرأها سوى أديب متخصص، أو قاريء مهتم، ناضج، متجاوز لمساحات من القراءة الأولية، تؤهله للاشتباك النقدي مع كتابات مثل هذه!
ما بعد الأخير: الدائرة تدور، ومن يسجن ناجي اليوم هو من سَجن أبو البخاري بالأمس، وهو من سيسجن من يطالبون الناس بابتذال القضية بناء على ذائقتهم الأدبية أو انحيازاتهم الدينية والأخلاقية غدا، والله تدور!!