رقعة راقدة على المتوسط، مكتظة باللاجئين، باتت بمن فيها سجنا مفتوحا اسمه قطاع
غزة. تم افتعال الحصار وترسيخه عبر عقد كامل، وما كان لهذه السياسة الجسيمة أن تستمر لولا ضلوع أطراف متعددة فيها وتأمين غطاء إقليمي ودولي لتمريرها أو صرف النظر عنها.
لا تمضي سياسات الحصار بلا ذرائع، فهي تقوم أحيانا على إنكار وقائعها، أو التهوين من الانعكاسات الفادحة التي تتسبب بها، مع الإمعان في لوم الضحية، لتحميل الواقعين تحت الحصار المسؤولية عنه عبر ربط الإجراءات الجائرة بذرائع متعددة ووضع شروط بمواصفات تعجيزية لرفعها أو تخفيفها.
كان من المألوف أن يتناول الخطاب الدولي المراوِغ قضية الحصار بتعبيرات مخففة، فهي مجرد إجراءات أو إغلاقات أو قيود كما قيل، والشائع في التناول هو حجب المتسبِّب بها أو تغييب الإشارة إليه، فيتولّد الانطباع أحيانا وكأنّ التداعيات الجسيمة ناجمة في هذه الحالة عن نكبة طبيعية أو موجة جفاف أو شح ذاتي في الموارد، وليست مترتبة على سياسات تم رسمها واتباعها من جانب أطراف محددة يمكن تشخيصها بلا عناء.
من يكترث بهذه القضية ويسعى للتفاعل العملي معها؛ سيجد نفسه عالقا في متاهة التفاصيل المتداخلة، التي تصادفه في ملفات الحصار جميعا، وهكذا تم تصميم المعضلة لتبدو فائقة التعقيد على نحو يعيق التدخلات الرامية للحل أو التخفيف إزاء أزمات محددة كالوقود أو الكهرباء، أو خروج المرضى للعلاج، أو فتح معبر رفح، أو إدخال مواد البناء، أو الوفاء بتعهدات إعادة الإعمار. ومع هذه التعقيدات المفتعلة طوّرت أطراف الحصار قائمة من الحجج اللفظية التي تسعفها في التنصل من المسؤولية عن الضلوع في الجريمة، بينما تتواصل الجريمة المركبة على الأرض بلا هوادة.
من المهمّ إعادة توجيه الضغوط الواقعة على الشعب تحت الحصار لترتدّ بأعبائها الأخلاقية وأثمانها المعنوية على الجهات الضالعة في هذه السياسة الجائرة، أيا كانت، فلا غنى عن رفع كلفة الحصار على الضالعين فيه والمتواطئين معه بعدم إعفائهم من المسؤولية عنه. ولا مناص في هذا السياق من تسليط الأضواء على السياسات والممارسات والتواطؤات التي يتمخّض عنها الحصار، ونسبتها بلا مواربة إلى الأطراف الشريكة في ذلك.
لا يصحّ تحميل أعباء هذا التحريك النوعي الذي لا غنى عنه، على كاهل الشعب المحاصر في قطاع غزة، أخذا بعين الاعتبار ملابسات الواقع واستحقاقات الجغرافيا وحدود التحرك، فهي مسؤولية ملقاة في الأساس على المخزون التضامني والتفاعلي المتاح عبر الإقليم والعالم. على أنّ خيارات التحرك المدني والإعلامي والجماهيري جميعا، لا تغني عن التحركات السياسية وما سواها.
لكنّ التفاعل مع تطورات الحصار تعيقه معضلات عملية، ينبغي تفكيكها أو تحييدها لتحقيق ما تستأهله هذه القضية من مواكبة وتصعيد في التحركات الضاغطة. فقد تكون المعلومات المتعلقة بالحصار، مثلاً، متاحة في بعض وسائل الإعلام والتقارير الحقوقية والدولية بالفعل، لكنّ البُعد الغائب في معظم الأحوال هو تمكين الجماهير والنخب من معايشة الواقع والإحساس به، وهو ما يمثل حالة من التعتيم الوجداني. فالمعلومات مهمة لتكوين المواقف والتصوّرات؛ لكنّ ضعف الإحساس بحصار مليوني إنسان كفيل بتثبيط التفاعلات والتحرّكات وإن تحققت القناعة بخطورة الحصار القائم.
تنتصب معضلة أخرى في المنحى الاعتيادي، فقد بات الحصار قضية مزمنة لا جديد فيها تقريبا، تقوم على ضغوط مستمرة تفرض على حسّ الجماهير والنخب في العالم الاعتياد عليها والتكيّف مع وقائعها وأخبارها النمطية، خلافا للتطوّرات التي تبدو استثنائية ومفاجئة وصادمة، مثل القصف والتدمير والمجازر والأشلاء؛ فهذه الأخيرة تبقى الأقدر على استثارة الغضب والتفاعلات العارمة.
تفرض هذه الحقيقة إخراج الحصار في الوعي العام من المربع الرتيب الذي تشغله القضايا المزمنة عادة. ويقوم التحدي الجوهري في هذا الشأن على وضع القضية في مركز الوعي الجمعي، وتقديمها بما يعين على إعادة تعريفها ذهنيا من حالة اعتيادية مألوفة إلى وقائع صادمة. والاستحقاق الذي تفرضه هذه المقاربة يتمثل أيضا في كيفية تحريك التفاعل مع هذه القضية في أوقات تخلو من دويّ القصف ومستنقعات الدم.
من الخيارات الميسّرة في المعالجة، مثلاً، تقديم الحصار من خلال وجوه وأسماء وحالات مفردة قادرة على التعبير الرمزي عن حشد الحقائق والأعداد التي تتلاحق في تطوراته. لا يغيب عن الأذهان أنّ البشر لم تستوقفهم حشود الغرقى في المتوسط من الأطفال والنساء والشبّان عبر السنوات الماضية، بينما حرّكهم طفل واحد ملقى على الشاطئ وقد أشاح بوجهه عنهم، واكتشفوا أنه قضى نحبه غرقا مثل سابقيه. إنها مقاربة فعالة في زمن الصورة والمشهد، ولكنّ تفعيلها لا يتطلب انتظار الضحية القادمة – لا قدّر الله – بل يقتضي التعرف على مخزون الفرص الرمزية المتاحة في الواقع القائم والسعي لاستثمارها بما يخدم قضية عادلة وملحّة.
لا غنى في هذا السياق عن خيارات أخرى، منها تطوير المقاربة الواقعية للحلول، وحشد تأييد المجتمع المدني والحكومات، وإبرازها بشكل ضاغط، مثلاً بشأن تأمين الإمدادات وتدشين ميناء. وعلى التحركات العملية أن تمضي إلى صناعة الحدث والمبادرة الميدانية في فعاليات كسر الحصار، واشتقاق تحركات ضاغطة جديدة ومبتكرة. ولا تغيب عن الأذهان تجارب الزوارق والأساطيل التي حققت في وقتها تصعيدا للاهتمام العالمي بهذه القضية، لاسيما أسطول الحرية سنة 2010، وقد باتت الحاجة قائمة لخطوات فعالة من نمط جديد.
تفرض متطلبات التأثير عدم الاكتفاء بالتضامن الإجمالي مع الشعب
الفلسطيني تحت الحصار، بل ينبغي تعزيزه ببعث حالة تضامنية متعددة الأشكال والمستويات ضمن القطاعات المتماثلة كل على حدة أيضاً، مثلاً بتحفيز المعلمين والأطباء والمسعفين في بلد معيّن على التضامن مع أقرانهم تحت الحصار في قطاع غزة، أو تفعيل المنظمات المدافعة عن الطفولة للتحرك الجادّ ضد عقوبات جماعية تستهدف السكان المحاصَرين ومعظمهم من الأطفال، وقد يتم اجتراح تحركات من قبيل "أمهات ضد الحصار"، أو ما شابه ذلك. من شأن هذا المنحى التفاعلي تعظيم الجهود وتوسيعها في المجالات كافة، بما يعين شتى الفئات والشرائح والأطر على معايشة قضية الحصار كل من زاوية اختصاصه أو مجال اهتمامه، وفتح آفاق تفاعلية أقدر على الضغط والتحريك.
يتطلب ذلك، على أي حال، إنعاش التفاعل المتبادل بين مسارات التحرك الاستراتيجي والتكتيكي الرامي لكسر الحصار، واستثمار مخزون الفرص السياسية والمدنية والجماهيرية والإعلامية في التحركات كافة، مثل الجهود القانونية والحقوقية الجادة التي تتيح بحدّ ذاتها فرصاً مميزة للضغط الإعلامي.
ولا يكفي شحن الجماهير وتعبئة فئات النخب، بل ينبغي توجيهها أيضا إلى الاستجابات المطلوبة وما ينبغي عمله على وجه التحديد، بما يتطلب صياغات دقيقة للمسؤوليات المنتظرة من كل فئة أو شريحة أو إطار للقيام بواجبها في كسر الحصار. إنها مسؤولية مباشرة لمن يرى في ذلك إنصافا للقيم والمبادئ والأخلاق والمواثيق والشرائع في هذا العالم، فالموقف ليس مساندة لشعب بعينه يستحق الإنصاف وحسب.
على الحصار أن ينتصب في وجه السياسيين والدبلوماسيين والمسؤولين الذين يتحركون عبر المنطقة والعالم، بإخضاعهم للمساءلة عمّا فعلوه لرفعه، بدل التصفيق لخطوات إنسانية جزئية تتعامل مع بعض مخرجات الأزمة لتسكين الآلام بدل معالجة الداء. فالحقيقة أنّ المجتمع الدولي، بما في ذلك أوروبا السياسية، ضالع باستمرار الحصار أو متواطئ معه، وجرى ذلك خلال مواسم ارتفعت فيها شعارات زاهية عن التشارك في مكتسبات العولمة وتحقيق الأهداف الإنمائية، أو التعاون في الجوار الأوروبي والشراكة الأوروبية المتوسطية، أو حوار الحضارات والتعايش بين الأمم.
لا ريب أنّ دخول الحصار عشريته الثانية يفرض السعي إلى تغيير قواعد اللعبة، فمن ساهموا في افتعال أزمة لمليوني إنسان في القطاع ينبغي أن يتشاطروا الأعباء والتداعيات المترتبة عليها، فدفع الأزمة إلى مربعات جديدة غير محسوبة يبقى خياراً في التحريك لإرغام الأطراف على مراجعة حساباتها. لقد بلغ التهاون مبلغه لدى المجتمع الدولي إلى حد التلويح بتعليق العام الدراسي 2015 ـ 2016 في مدارس الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، وكاد هذا الصلف أن يؤذن بإشعال حرائق اجتماعية واقتصادية تشيع التجهيل والقنوط والتطرف في عمق المجتمع الفلسطيني في القطاع والضفة وتجمعات اللجوء.
من شأن التهاون مع التجاوزات أن يبعث برسائل في الاتجاه الخاطئ، وها هي المناشدات الفلسطينية الرخوة تغري بمواصلة نهج الحصار الفادح. فالأجدى هو مطاردة الضالعين في الحصار بملاحقات سياسية وإعلامية وحقوقية وقانونية مكثفة، وبآجال مفتوحة، لأنّ المسؤولية عن الانتهاكات لا تسقط بالتقادم، فلا غنى عن فتح ملفات الضالعين في الحصار بسياساتهم وقراراتهم، أو مواقفهم وتصريحاتهم، وممارسة الضغوط المدنية المركّزة على شركاء الانتهاكات الجسيمة.
الثابت أنّ حصار غزة المزمن قد ارتكز إلى استراتيجيات فعالة من التضييق أحكمت حلقاتها عبر عقد كامل، ولا غنى عن تعطيلها أو كبحها عبر منظومة فاعلة ومبتكرة من الخيارات والأدوات والتحركات المضادة. ينبغي تكثيف الجهود لكسر الحصار أو دفعاً لإرخاء قبضته في المدى القريب، ولا أقل من تعظيم ضريبة هذه السياسة الجائرة التي تم فرضها سنوات عشر على شعب بأسره في رقعة تسمى قطاع غزة، ورفع كلفتها على الضالعين فيها، كي لا تواصل طريقها في العقد الثاني.