انقضت سنة كاملة من الحرب المتواصلة
التي يشنّها
الاحتلال الإسرائيلي على الشعب
الفلسطيني في قطاع
غزة، وجرت في ظلالها
حملات توغّل وقتل وتدمير متواصلة يقوم بها جيش الاحتلال في الضفة الغربية أيضا،
بينما يصعِّد المستوطنون المسلّحون اعتداءاتهم على القرى الفلسطينية بلا هوادة.
منذ بدء موسم الفظائع المستمرّ هذا؛
لم تكن نوايا قيادة الاحتلال، السياسية والعسكرية، خافية في سعيها لتفكيك قطاع غزة
المكتظّ باللاجئين الفلسطينيين وممارسة التطهير العرقي فيه، وقد تبارى وزراء وقادة
عسكريون في الإدلاء بتصريحات واضحة الدلالة في هذا الشأن طوال هذا الموسم، جمعتْ
بعضَها أوراقُ الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية. ثمّ
إنّ الممارسة الإسرائيلية العملية على الأرض لا تدع مجالا لافتراض حسن النيّة نحو
الشعب الفلسطيني الذي وقع تدمير مقوِّمات حياته بالكامل في قطاع غزة وتهجيره
داخليا مرّات تلو مرّات وقتل عشرات الألوف من المدنيين، معظمهم أطفال ونساء، في
حصيلة قياسية تتخلّلها وقائع صادمة تفوق الوصف.
رغم كلّ ما جرى فإنّ التصريحات
السياسية المسموعة في الأفق العالمي احتفظت ببرودتها المعهودة، وكأنها لم تستوعب
الخبرة الجسيمة الماثلة للعيان عندما تكتفي بالدعوة الجوفاء المتكرِّرة منذ عشرات
السنين إلى إقامة "دولة فلسطينية تعيش في أمن وسلام إلى جانب إسرائيل"،
دون أن تستخلص أيّ عبرة ممّا جرى حتى الآن. فهل يمكن الوثوق حقّا بأنّ هذه
"الدولة" إن قامت في الواقع، والتي يأتي في التفاصيل أنها ينبغي أن تبقى
منزوعة السلاح؛ لن تكون صيدا سهلا لواحد من أقوى جيوش العالم؟ وهل الخبرة الحاصلة
مع وحشية السلوك السياسي والعسكري الإسرائيلي نحو الشعب الفلسطيني تسمح بافتراض
وجود مستقبل آمِن لهذه الدولة؟!
القيادة الإسرائيلية التي تُعلِن بشكل متكرِّر أنّها عازمة على "تغيير الواقع في الشرق الأوسط"، كما قال بنيامين نتنياهو ذاته على منصّة الجمعية العامّة للأمم المتحدة، لا تدع مجالا للشكّ بأنها تمارس سطوتها على الإقليم ككلّ، وهي تحرص على إظهار هذه السطوة على الملأ، فكيف لدولة فلسطينية مجهرية ضعيفة ومنزوعة السلاح أن تحتمل هذه السطوة اللصيقة بها واحتمال محاصرة قادتها أو حتى اغتيالهم في أي وقت يرغب به الاحتلال؟!
تبدو مقولة "الدولة
الفلسطينية" أخّاذة حقا وتوحي بكيان ذي سيادة يحظى باستقلال ناجِز، لكنّ
الحديث يدور في الواقع عن دولة مجهرية حرفيا، إذ يُفترض في أحسن الأحوال أن تُقام
على رقعة غير متواصلة جغرافيا، وهي حسب أفضل الأطروحات المعروضة في الخطابات
الرسمية ستُقام على مساحة لا تتجاوز ستة آلاف كيلومتر مربّع تشمل عموم الضفة
الغربية وقطاع غزة معا، أي حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، ولن يُسمَح وفق هذا
"الحلّ" بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم أيضا.
أمّا في أطروحات أخرى تدّعي
"الواقعية"، مسموعة في الإدارات الأمريكية المتعاقبة مثلا، فإنّ مساحة
هذه "الدولة" ستتقلّص بشكل جوهري إلى نصف تلك المساحة تقريبا مع تقطيع
أوصالها إلى تجمّعات سكانية معزولة، لتصير دون مساحة إقليم صغير يُسمّى
ترانسنستيريا، وهو دولة انفصالية مجهرية غير معترف فيها تشغل رقعة لا تتجاوز ثلاثة
آلاف وخمسمائة كيلومتر مربّع ضمن مولدافيا. لكنّ المثال المولدافي مُضلِّل في
الواقع، ذلك أنّ حملات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب وممارسات
التدمير الشامل والتجويع لا مكان لها في ذلك البلد الأوروبي الشرقي الوديع.
صحيح أنّ التصريحات المتكرِّرة عن
قيام "دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل" تذكِّر قيادة الاحتلال
السياسية والعسكرية بأنّ سعيها لإنهاء قضية الشعب الفلسطيني بالعنف العسكري غير
مقبول من المجتمع الدولي، لكنّ هذه التصريحات وحدها لا تُعبِّر عن جدِّية كافية
بعد كلّ ما جرى ويجري من استهانة إسرائيلية سافرة بالقانون الدولي وأنظمة الأمم
المتحدة والأعراف الأممية.
إنّ الدرس الماثل للعيان من واقع
الإبادة الجماعية الجارية وما تخلّلها من تطوّرات جسيمة، ينبغي أن يُذكِّر العالم
بحقيقة أنّ العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية لا تتسامح أساسا مع مجرّد وجود
فلسطين على الخريطة في أيّ نطاق كانت، وأنها لا تقبل سوى بسلطة فلسطينية شكلية لا
سيادة لها كي تحمل عن الاحتلال الإسرائيلي عبء إدارة "هؤلاء السكان"، مع
بقاء السيادة لسلطة الاحتلال، وتقديم خدمات دؤوبة لحماية الاحتلال من انتفاضة
الفلسطينيين ومقاومتهم تحت شعار "التنسيق الأمني".
إنّ القيادة الإسرائيلية التي تُعلِن
بشكل متكرِّر أنّها عازمة على "تغيير الواقع في الشرق الأوسط"، كما قال
بنيامين
نتنياهو ذاته على منصّة الجمعية العامّة للأمم المتحدة، لا تدع مجالا
للشكّ بأنها تمارس سطوتها على الإقليم ككلّ، وهي تحرص على إظهار هذه السطوة على
الملأ، فكيف لدولة فلسطينية مجهرية ضعيفة ومنزوعة السلاح أن تحتمل هذه السطوة
اللصيقة بها واحتمال محاصرة قادتها أو حتى اغتيالهم في أي وقت يرغب به الاحتلال؟!
لا يلحظ بعضهم أنّ مفردة
"فلسطين" ذاتها ظلّت من محظورات الخطابات السياسية والإعلامية والثقافية
الإسرائيلية، بالنسبة للحكومة والمعارضة على السواء، رغم أنّ الحركة الصهيونية
قامت أساسا حسب أدبيّاتها الأساسية لأجل "استعمار فلسطين"، وهكذا كتب
زعيمها تيودور هرتزل ذاته في أعماله المنشورة. تشمل المحظورات، أيضا، استخدام وصف
"الشعب الفلسطيني"، فهو في المنظور الإسرائيلي لا وجود له ببساطة.
يتحدّث قادة الاحتلال ونخبه السياسية والإعلامية والثقافية عن "سكّان"،
أو "عرب"، أو في أفضل الأحوال عن "فلسطينيين" فقط، لكن ليس عن
الشعب الفلسطيني مطلقا، فهذا الوصف يبقى عندهم من المحرّمات.
إنّ الاكتفاء بتصريحات نمطية عن قيام
"دولة فلسطينية تعيش في أمن وسلام إلى جانب إسرائيل" لا يعبِّر عن أيّ
نوايا جدِّية لقيام هذه الدولة. فكيف يمكن لدولة احتلال لا تعترف بوجود فلسطين أساسا،
وتُنكر وجود الشعب الفلسطيني، ولا ترى أساسا أحقّيّته بالوجود في هذه البلاد،
وتواصل تهجير أجيال الفلسطينيين وتدمير مقوِّمات عيشهم وسلب أراضيهم والتوسّع
الاستيطاني عليها؛ أن تحتمل وجود دولة فلسطينية بحقّ حتى ولو كانت دولة مجهرية،
وأن تمنحها فرصة عيش عادلة في حيِّز جغرافي لصيق بها؟!
من الحقائق التي كشفتها السنة الأولى
من الإبادة الجماعية في قطاع غزة أنّ إسرائيل لا تعبأ بالقانون الدولي، وهي تضع
نفسها فوق المجتمع الدولي، وأنّ داعميها على جانبي الأطلسي يضمنون لها حصانة
متواصلة من المُساءلة والمُحاسبة في الهيئات الدولية، إلى درجة تُغري القادة
الإسرائيليين بأن يذهبوا بعيدا في معاقبة الأمم المتحدة ذاتها،
ليست هذه المراجعة دعوة لإهالة التراب على إقامة دولة فلسطينية وقطع الطريق على قيامها، بل للتذكير بأنّ حقّ الشعوب في تقرير المصير لا يكون بالخضوع لمنطق السطوة التي لا ترغب عواصم القرار الدولي في ردعها
مثلا من خلال
الإعلان أنّ أمينها العام أنطونيو غوتيريش شخص غير مرغوب به، وفرض عقوبات على
وكالة "الأونروا"، ومهاجمة قوّات حفظ السلام الدولية في جنوب لبنان
"يونيفيل"، ومواصلة قصف المدارس والمقارّ التابعة للأمم المتحدة في قطاع
غزة وقتل أعداد متزايدة من موظفيها هناك.
إنّ الدولة الوحيدة في العالم التي
تجرؤ على ممارسة هذا كلّه، هي تحديدا التي يُفترض أنها ستتصرّف كالحمَل الوديع
وتتسامح مع وجود دولة فلسطينية "تعيش إلى جانبها في أمن وسلام" حسب تلك
التصريحات الحالمة. وما يثير الشكّ أنّ بعض العواصم التي تُطلق هذه التصريحات
تتحاشى توجيه أيّ نقد إلى الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، بل وتسوق تبريرات
مثالية لبعض
جرائم الحرب الإسرائيلية.
ليست هذه المراجعة دعوة لإهالة
التراب على إقامة دولة فلسطينية وقطع الطريق على قيامها، بل للتذكير بأنّ حقّ
الشعوب في تقرير المصير لا يكون بالخضوع لمنطق السطوة التي لا ترغب عواصم القرار
الدولي في ردعها. دون مساءلة الاحتلال الإسرائيلي ومحاسبته على الأهوال وجرائم
الحرب والانتهاكات الجسيمة التي واصل اقترافها، ودون إجراءات رادعة وعقوبات صارمة
تُفرض على سلطة الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من حريّته وحقوقه غير القابلة
للتصرّف؛ لن يكون من مجال لأي حلّ عادل وشامل في فلسطين.
(*) ترجمة خاصة إلى العربية عن
"ميدل إيست مونيتور"