تونس تدخل عامها الثاني تحت حكم الباجي. لقد احتفل الجميع برأس السنة وتنافسوا على ليلة صاخبة. وقدموا صورة وردية لسياحة مزدهرة. مؤشرات عابرة يتخذها المتفائلون ذريعة للقول أن البلد بخير وأن (الأمور ماشية) نحو الأفضل. والإعلام الموالي يعطي الانطباع بأن كل شيء على ما يرام لولا بعض التفاصيل الصغيرة التي تشوش الرؤية. مثل طرد طبيب من عمله لأنه أغلظ للوزير في القول أو طفلة سليطة اللسان خاطبت الشرطة دون احترام فصفعوها. فإذا لمح أحدهم إلى أن المطلوب من الثورة لا ينفذ ولا يبدو أنه في وارد التنفيذ سلطت عليه صور من سوريا وفرض عليه أن يحمد الله على السلامة.
التفاؤل بصفته أيديولوجيا.
يبدو أن النظام السياسي رغم تزيينه بأحزاب جديدة ووجوه جديدة قد استعاد كل إرث التزييف الإعلامي والسياسي حيث يبرع في تصوير النجاحات وإخفاء الفشل. أي عدم مصارحة الناس بحقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تمر به البلاد. يقول الرئيس في الصحافة الموالية له (وهي نفس صحافة النظام المخلوع) إن زياراته إلى الخارج تعيد تلميع صورة البلد (وهي جملة غير واعية تعني أن الثورة شوهت صورة البلد) والحقيقة أننا مضطرون إلى تأويل الزيارات من صيغتها الدعائية إلى صيغتها التسولية. فالرجل يطوف باحثا عن سد فجوات الميزانية طالبا المزيد من القروض بما في ذلك تقبل مِنَّة السلاح السعودي الخردة. ويفترض أن يكون هذا العمل من صميم مهام رئيس الحكومة وليس رئيس الدولة لكن يبدو أن السيد رئيس الحكومة أعجز من أن يؤلف جملا مفيدة تقنع الآخرين بإعارته مالا لتدبر رواتب موظفيه.
تفتخر الحكومة بأنها خفضت أسعار المواد الغذائية وسيطرت على الغلاء لكنها فعلت ذلك بمنع التصدير إلى السوقين الليبية والجزائرية (و تراجع عدد السياح) مما جعل عبء التخفيضات تكسر ظهور الفلاحين المنتجين وقد تجلى ذلك في أزمة التمور خلال هذا الخريف. حيث انهارت أسعار المنتج في مكانه وخسر فلاحو التمور موسمهم. في حين يستأسد الاحتكاريون المبجلون ببوابات التصدير إلى السوق الأوربية.
تعتذر الحكومة عن عدم التشغيل في سنة 2016. إلا في حدود تعويض شغورات التقاعد. في حين يتراكم خريجو الجامعات في سوق الشغل. وحجتها البدء أولا بإعادة إطلاق المبادرات الاقتصادية الخاصة في المناطق. وهذه نكتة لم تعد تضحك التونسيين. فقد مجُّوها من زمن الإصلاح الهيكلي إياه. يعرف المواطن وتعرف الحكومات قبله أن قطاع الأعمال في تونس قطاع طفيلي يبحث عن الكلفة الأقل والربح الأقصى. ولن ينتقلوا إلى المناطق الداخلية ولن يساعدوا أية حكومة على تحسين حال البلد والناس. لأنهم بكل بساطة يجدون مصلحتهم في هذا الانخرام الاقتصادي الذي يوفر لهم دوما يد عاملة رخيصة. ولدى غالب التونسيين قناعة راسخة أن جماعة الصناعة والتجارة (كما يسمونهم) لا يعتد بهم ولا يعتمد عليهم ولذلك يعود العاطلون إلى طلب الشغل من الحكومة (القطاع العام) الذي لم يعد يحتمل المزيد.
هل يمكن تقديم قراءة متفائلة لوضع البلد الاقتصادي والاجتماعي في ظل حكم الباجي (الذي يستولي على صلاحيات رئيس الحكومة).
من وجهة النظر ما يجري في ليبيا وسوريا نحن بخير عميم حتى أننا نرقص في أعياد الميلاد المجيدة. لكن من وجهة نظر
الثورة التونسية نحن نتراجع إلى ما قبل 17 ديسمبر والأرقام التي يخفيها إعلام الولاء والتزييف ستنفجر قريبا في وجه الحكومة. إن خطاب التفاؤل هنا هو خطاب مزيف وكاذب ويروج لنجاحات تقع في رؤوس أصحابها وليس في الواقع المرير للفلاحين والعمال والفقراء العاطلين. وللمزيد من إخفاء الأمر فإن الجملة المناسبة للوضع هي (هل صدقت أن قد حصلت ثورة في البلد؟) أي عليك أن تنفي واقعة الثورة لتنفي الانتظارات المترتبة عليها. ولتسهل الأمر عليك أنظر إلى الوضع السوري وألعن الربيع العربي هذه المؤامرة الصهيونية الكبيرة على الأمة.
الجبهة الاجتماعية ترفض تحمل المسؤولية.
في تتبع سلسلة الأسباب التي أدت إلى الوضع الحالي فإن الجميع متهم بالتقصير في حق الثورة ومطالبها. ومن السهل الاكتفاء بركوب موجة نقد الحكومة وتسقط أخطائها الكارثية. لكن من الواقعية القول بأن هذه الحكومة وهذا الرئيس هما نتاج ممتاز لما فعلته الطبقة السياسية بنفسها في تونس بعد الثورة. قراءة خطاب الأحزاب المختلفة يترك انطباعا طيبا بأنها تشكل مجتمعة جبهة اجتماعية قادرة على العمل وتحقيق أهداف الثورة بالوسائل السياسية
الديمقراطية. لكن على الأرض ينصرف السياسيون إلى مزايدات أنتجت قانون الإرهاب الذي أعاد إطلاق يد الأمنيين الفاسدين في أعراض الناس وأجسادهم بذريعة مقاومة الإرهاب. (الإرهاب الذي يختفي ليلة رأس السنة حتى أن أشرس أعداء الإرهاب أقاموا الاحتفالات في قمة جبل الشعانبي شماتة في الإرهابيين). وقد انتهوا الآن إلى تشريع يخفف عقوبات استهلاك المخدرات وقريبا تشريع المثلية الجنسية (عبر تشريع حق اختيار جنس الشريك). وللسخرية الذابحة أن كل هذا لم يكن على جدول أعمال الثورة ولا مطالب الناس الراغبين في تحسين أوضاعهم المادية وليس تنويع ممارساتهم الجنسية.
لقد صرف الناس عن جدول أعمالهم إلى جدول أعمال لم يتوقعوه وبذكاء شيطاني مبدع. ولكن في هذا الوضع يصير اتهام النظام القديم بولاءاته الثقافية تبرير سخيف (فهو يعادي الثورة ويصرف عنها الناس ويخذلهم وتلك مهمته التي عاد من أجلها) لكن بوابة التيه عن المشروع تتحمل كلفتها ونتائجها طبقة سياسية مقسمة على نفسها ومثقفين مشغولين بمعركة قديمة زرعت فيهم منذ 40 سنة (أي ولدوا بها كعاهة مستديمة). هي عاهة الاستئصال السياسي المتبادل التي مارسوها بإتقان وتفان دون وعي بأنهم في خدمة النظام القديم العائد.
تلك العاهة أجلت بناء الديمقراطية منذ الاستقلال وإلى حد اليوم فإن الطيف السياسي المكون لمن ينعت نظريا بالمعارضة يتحرك داخل هذا الأفق الاستئصالي. ويرى أن نتائج صراعاته تصب في مصلحة النظام وضد مصالح الشعب الذي يزعم قيادته والتفكير له لكنه يواصل في التهرب من مسؤوليته الحقيقية وهي فرض مطالب الثورة على النظام وبأطرافه الجديدة أو التي توهمت أنها صارت جزءا من النظام بعد. النظام ضمن هذا الأفق يستعيد عافيته عبر تجويع الناس وإيهامهم بالسعادة القادمة وتخويفهم من المصير السوري ودعوتهم إلى تمجيد التجربة الفريدة التي نالت جائزة نوبل.
ندخل سنة الباجي الثانية بلا معارضة جديّة إلا من يتمنى أن يسقط النظام من تلقاء نفسه. بل إن عقلية الاستئصال المتحكمة في نمط العمل السياسي المعارض تدفع الأحزاب المتحالفة مع حزب الباجي المتفكك رغم وجوده في السلطة إلى المزيد من التماسك حول الباجي الذي يتحول إلى نبي منقذ. وهي لعمري أسوء احتمالات التقدم في بلد هرب من ثورته إلى ما قبلها واكتفى بتمجيد نصر لم يعشه واكتفى باللغة المنتصرة. فاللغة الباهرة قامت دائما بتعويض الهزائم في الميدان.