منذ تحول الثورة السورية إلى ما يشبه الحرب الأهلية، ثم دخول القوى الإقليمية والدولية على خطها بشكل مباشر، كثرت في العالم العربي أحاديث سايكس - بيكو الجديدة، أي إعادة رسم خرائط المنطقة بين الدول الكبرى كما فعلت قبل حوالي مئة عام.
وبطبيعة الحال، فقد زادت وتيرة وحدة هذه النقاشات بعد التدخل الروسي وإسقاط المقاتلة الروسية من قبل تركيا، وإرسال عدد من الدول مقاتلاتها وحاملات طائراتها إلى شرق المتوسط، باعتبار أن كل هذا التواجد العسكري قد يؤدي إلى حرب إقليمية أو عالمية تعيد رسم الخرائط السياسية و/أو الجغرافية في المنطقة، بينما يرى آخرون أن خطط التقسيم جاهزة وستفعـّل حتى ولو لم تحصل حرب، أما قسم ثالث - وهو الأغلبية ربما - فيرى أن التقسيم حدث فعليا في عدة دول في مقدمتها سوريا والعراق، وينتظر الإعلان الرسمي عنه.
ورغم أن الخرائط السياسية تبدو أكثر عرضة للتبدلات من الخرائط الجغرافية، أو بمعنى آخر، رغم أن المرجح هو تشظي الدول القائمة حاليا من داخلها وانقسامها إلى دويلات دون طغيان أو احتلال بلد لبلد كما كان يحصل عبر التاريخ، إلا أن حالة السيولة في المنطقة قد تدفع ببعض الدول إلى التحرك أو التموضع - هجوما أو دفاعا - للتكيف مع الوضع الجديد، وهو ما يطرح تساؤلات عدة حول موقف ووضع وإمكانات الدول الإقليمية القوية، وفي مقدمتها إيران وتركيا.
أما بالنسبة لتركيا - موضوع المقال - فلم يكن الأمر مطروحا بهذا الشكل على مدى سنوات طويلة من حكم العدالة والتنمية على الأقل، إذ عمل الحزب على مدى 13 عاما، وفق نظريات أحمد داود أوغلو، على استثمار القوة الناعمة لتصفير المشاكل مع عمقه الاستراتيجي، الذي يقع العالم العربي/ الشرق الأوسط في دائرته الأولى.
بيد أن عوامل كثيرة أدت إلى تغير هذه المنظومة التركية، أولا من خلال الربيع العربي والثورة المضادة اللذين عصفا بمحاور المنطقة الراسخة منذ عقود، وعصفا معها بمرتكزات السياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة، وتاليا بسبب المتغيرات الكثيرة التي حملت معها إخفاقا تركيا في إحداث اختراقات خارجية هامة في عدة قضايا أهمها سوريا ومصر. دفعت هذه المتغيرات قيادات العدالة والتنمية - وليس فقط المعارضة - إلى الدعوة لإجراء تعديلات في رؤية وأهداف ووسائل السياسة الخارجية لتركيا، سيما في قضايا المنطقة.
لقد اتجهت أنقرة بفعل هذه التغيرات - كما توقعنا في عدة مقالات سابقة - إلى البحث عن شركاء جدد في المنطقة، فضلا عن ترطيب الأجواء وتدوير الزوايا مع عدة لاعبين إقليميين ربطتها بهم على مدى السنوات القليلة الماضية علاقات غير دافئة، مثل مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد رأينا بعض الإرهاصات على تحولات متوقعة و/أو وشيكة على هذا المسار.
لكن تبدلا آخر لم يلحظه الكثيرون يبدو أكثر أهمية واستراتيجية، يتعلق بدور تركي أنشط وأكثر مبادرة في الإقليم، بدأت أولى معالمه في التحرك التركي نحو شمال العراق بعد أن حدت أزمة المقاتلة الروسية وارتداداتها من الدور التركي في الشمال السوري، ووأدت تحركا أمريكيا – تركيا وشيكا في "جرابلس". حيث لم تكتف تركيا بتعزيز قواتها هناك عددا وعدة، ولكن صدرت أيضا عن داود أوغلو تصريحات أعتبرها الأولى من نوعها حين قال إن القوات التركية ليست هناك فقط لدعم الحكومة المركزية أو لمكافحة تنظيم الدولة ولكن أيضا "لحماية الحدود التركية" من أي خطر.
لربما هي المرة الأولى التي يتكلم بها مسؤول تركي بهذا الوضوح، مبررا وجود قواته العسكرية خارج الحدود لحماية مصالحها كتحرك وقائي استباقي، وهو تصريح له دلالته ولا شك، خصوصا إذا ما أضيف له عدة تحركات ومواقف سابقة أو متزامنة، في مقدمتها الاتفاقات العسكرية والاستراتيجية الأخيرة مع قطر والتي تضمنت تواجد قوات عسكرية تركية على الأراضي القطرية مثلا.
الكاتب التركي إبراهيم كاراغول كتب قبل أسبوعين مقالة بعنوان "خط الموصل – حلب، هذه خريطتنا" في صحيفة (يني شفق)، المقربة من الحكومة والعدالة والتنمية، يقول فيها إن المنطقة على شفا حرب عالمية سيعاد فيها رسم الخرائط، ويراد من ضمنها "حبس" تركيا في الأناضول، معتبرا أن "خط الموصل - حلب هو خط دفاعنا المستقبلي"، مستنتجا أن خصوم تركيا يحاولون رسم خريطة جديدة حتى في الأناضول إن لم ترسم تركيا خريطتها بنفسها، خريطة بين الموصل وحلب.
محللون سياسيون أتراك رأوا أيضا أن التقسيم قد جرى فعلا على أرض الواقع في كل من سوريا والعراق بغض النظر عن الإعلان الرسمي عنه والترسيم الدولي له، وأن تركيا مضطرة لاتخاذ موقف ما دفاعا عن حدودها وأمنها القومي، ورأى بعضهم أن كونفدرالية - فعلية وليس بالضرورة رسمية - بين أكراد العراق والمناطق "السنية" في كل من سوريا والعراق بحماية القوات المسلحة التركية قد تكون أحد الخيارات.
كنتُ قد أشرت في بعض مقالاتي الأخيرة إلى أن تركيا قد خسرت على هامش أزمة المقاتلة الروسية بعضا من هامش المناورة والتمايز عن الناتو/الولايات المتحدة الذي كانت تتمتع بهما، وأن ذلك ليس في مصلحة تركيا ولا مصلحة دول وقضايا العالم العربي الذي يحتاج لتركيا "قوية ومستقرة ومستقلة قدر الإمكان". هذه الخسارة قد تعني تقاربا تركيا مع حلفاء واشنطن في الإقليم، وانخراطا أكبر في التحالف الدولي ومهماته في المنطقة، والتزاما أكبر بالأجندة الأمريكية هنا، ويُخشى أن تتفاعل مع التوجه التركي لسياسة خارجية نشطة وأكثر جرأة ومبادرة بشكل ينقلب سلبا عليها وعلى المنطقة.
مرة أخرى، وبغض النظر عن النوايا التي لا تعترف بها السياسة، فإن المنطقة برمتها تعاني من سيولة متسارعة وأحداث متدحرجة، تبحث فيها كل دولة عن مصالحها وأمنها قبل أي شي آخر، ومن ضمن ما يحفظ للدول هذه المصالح وذاك الأمن، التحالفات الإقليمية والشراكات الثنائية و/أو الجماعية، وعليه، فإن من أراد ألا يخسر تركيا في قضاياه وملفاته الأهم فعليه أن يمد لها يد العون وليس فقط التعاون والتحالف لا مجرد التنسيق، قبل أن تتحول الضرورات إلى وقائع وحقائق، والخسائر الآنية المؤقتة إلى كوارث استراتيجية دائمة.
منذ تحول الثورة السورية إلى ما يشبه
الحرب الأهلية، ثم دخول القوى الإقليمية والدولية على خطها بشكل مباشر، كثرت في العالم العربي أحاديث سايكس - بيكو الجديدة أي إعادة رسم خرائط المنطقة بين الدول الكبرى كما فعلت قبل حوالي مئة عام.
وبطبيعة الحال، فقد زادت وتيرة وحدة هذه النقاشات بعد التدخل الروسي وإسقاط
المقاتلة الروسية من قبل
تركيا وإرسال عدد من الدول مقاتلاتها وحاملات طائراتها إلى شرق المتوسط، باعتبار أن كل هذا التواجد العسكري قد يؤدي إلى حرب إقليمية أو عالمية تعيد رسم الخرائط السياسية و/أو الجغرافية في المنطقة، بينما يرى آخرون أن خطط التقسيم جاهزة وستفعـّل حتى ولو لم تحصل حرب، أما قسم ثالث - وهو الأغلبية ربما - فيرى أن التقسيم حادث فعلياً في عدة دول في مقدمتها
سوريا والعراق وينتظر الإعلان الرسمي عنه.
ورغم أن الخرائط السياسية تبدو أكثر عرضة للتبدلات من الخرائط الجغرافية، أو بمعنى آخر رغم أن المرجح هو تشظي الدول القائمة حالياً من داخلها وانقسامها إلى دويلات دون طغيان أو احتلال بلد لبلد كما كان يحصل عبر التاريخ، إلا أن حالة السيولة في المنطقة قد تدفع ببعض الدول إلى التحرك أو التموضع - هجوماً أو دفاعاً - للتكيف مع الوضع الجديد، وهو ما يطرح تساؤلات عدة حول موقف ووضع وإمكانات الدول الإقليمية القوية، وفي مقدمتها إيران وتركيا.
أما بالنسبة لتركيا - موضوع المقال - فلم يكن الأمر مطروحاً بهذا الشكل على مدى سنوات طويلة من حكم العدالة والتنمية على الأقل، إذ عمل الحزب على مدى 13 عاماً وفق نظريات أحمد داود أوغلو على استثمار القوة الناعمة لتصفير المشاكل مع عمقه الاستراتيجي، الذي يقع العالم العربي/الشرق الأوسط في دائرته الأولى.
بيد أن عوامل كثيرة أدت إلى تغير هذه المنظومة التركية، أولاً من خلال الربيع العربي والثورة المضادة اللذين عصفا بمحاور المنطقة الراسخة منذ عقود وعصفا معها بمرتكزات السياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة، وتالياً بسبب المتغيرات الكثيرة التي حملت معها إخفاقاً تركياً في إحداث اختراقات خارجية هامة في عدة قضايا أهمها سوريا ومصر. دفعت هذه المتغيرات قيادات العدالة والتنمية - وليس فقط المعارضة - إلى الدعوة لإجراء تعديلات في رؤية وأهداف ووسائل السياسة الخارجية لتركيا، سيما في قضايا المنطقة.
لقد اتجهت أنقرة بفعل هذه التغيرات - كما توقعنا في عدة مقالات سابقة - إلى البحث عن شركاء جدد في المنطقة، فضلاً عن ترطيب الأجواء وتدوير الزوايا مع عدة لاعبين إقليميين ربطتها بهم على مدى السنوات القليلة الماضية علاقات غير دافئة، مثل مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد رأينا بعض الإرهاصات على تحولات متوقعة و/أو وشيكة على هذا المسار.
لكن تبدلاً آخر لم يلحظه الكثيرون يبدو أكثر أهمية واستراتيجية، يتعلق بدور تركي أنشط وأكثر مبادرة في الإقليم، بدأت أولى معالمه في التحرك التركي نحو شمال العراق بعد أن حدت أزمة المقاتلة الروسية وارتداداتها من الدور التركي في الشمال السوري، ووأدت تحركاً أمريكياً – تركياً وشيكاً في جرابلس. حيث لم تكتف تركيا بتعزيز قواتها هناك عدداً وعدة، ولكن صدرت أيضاً عن داود أوغلو تصريحات أعتبرُها الأولى من نوعها حين قال إن القوات التركية ليست هناك فقط لدعم الحكومة المركزية أو لمكافحة تنظيم الدولة ولكن أيضاً "لحماية الحدود التركية" من أي خطر.
لربما هي المرة الأولى التي يتكلم بها مسؤول تركي بهذا الوضوح مبرراً وجود قواته العسكرية خارج الحدود لحماية مصالحها كتحرك وقائي استباقي، وهو تصريح له دلالته ولا شك، خصوصاً إذا ما أضيف له عدة تحركات ومواقف سابقة أو متزامنة في مقدمتها الاتفاقات العسكرية والاستراتيجية الأخيرة مع قطر والتي تضمنت تواجد قوات عسكرية تركية على الأراضي القطرية مثلاً.
الكاتب التركي إبراهيم كاراغول كتب قبل أسبوعين مقالة بعنوان "خط الموصل – حلب، هذه خريطتنا" في صحيفة يني شفق - المقربة من الحكومة والعدالة والتنمية - يقول فيها إن المنطقة على شفا حرب عالمية سيعاد فيها رسم الخرائط، ويراد من ضمنها "حبس" تركيا في الأناضول، معتبراً أن "خط الموصل - حلب هو خط دفاعنا المستقبلي"، مستنتجاً أن خصوم تركيا يحاولون رسم خريطة جديدة حتى في الأناضول إن لم ترسم تركيا خريطتها بنفسها، خريطة بين الموصل وحلب.
محللون سياسيون أتراك رأوا أيضاً أن التقسيم قد جرى فعلاً على أرض الواقع في كل من سوريا والعراق بغض النظر عن الإعلان الرسمي عنه والترسيم الدولي له، وأن تركيا مضطرة لاتخاذ موقف ما دفاعاً عن حدودها وأمنها القومي، ورأى بعضهم أن كونفدرالية - فعلية وليس بالضرورة رسمية - بين أكراد العراق والمناطق "السنية" في كل من سوريا والعراق بحماية القوات المسلحة التركية قد تكون أحد الخيارات.
كنتُ قد أشرت في بعض مقالاتي الأخيرة إلى أن تركيا قد خسرت على هامش أزمة المقاتلة الروسية بعضاً من هامش المناورة والتمايز عن الناتو/الولايات المتحدة الذي كانت تتمتع بهما، وأن ذلك ليس في مصلحة تركيا ولا مصلحة دول وقضايا العالم العربي الذي يحتاج لتركيا "قوية ومستقرة ومستقلة قدر الإمكان". هذه الخسارة قد تعني تقارباً تركيا مع حلفاء واشنطن في الإقليم وانخراطاً أكبر في التحالف الدولي ومهماته في المنطقة والتزاماً أكبر بالأجندة الأمريكية هنا، ويُخشى أن تتفاعل مع التوجه التركي لسياسة خارجية نشطة وأكثر جرأة ومبادرة بشكل ينقلب سلباً عليها وعلى المنطقة.
مرة أخرى، وبغض النظر عن النوايا التي لا تعترف بها السياسة، فإن المنطقة برمتها تعاني من سيولة متسارعة وأحداث متدحرجة، تبحث فيها كل دولة عن مصالحها وأمنها قبل أي شي آخر، ومن ضمن ما يحفظ للدول هذه المصالح وذاك الأمن التحالفاتُ الإقليمية والشراكات الثنائية و/أو الجماعية، وعليه فإن من أراد ألا يخسر تركيا في قضاياه وملفاته الأهم فعليه أن يمد لها يد العون وليس فقط التعاون والتحالف لا مجرد التنسيق، قبل أن تتحول الضرورات إلى وقائع وحقائق، والخسائر الآنية المؤقتة إلى كوارث استراتيجية دائمة.
هذا عن سياق التأثير، أما عن سياق التأثر بمعنى تعرض تركيا لمخاطر سيناريوهات التقسيم بين مطرقة التطورات السورية وسندان التصعيد مع أكراد الداخل بدعم خارجي، فربما يكون موضوع مقال مستقبلي إن شاء الله.