كان الخوف الأكبر أن تتحول أزمة إسقاط
تركيا للطائرة الروسية إلى مواجهة عسكرية بين البلدين تتدحرج بسرعة إلى حرب عالمية، باعتبار أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (
الناتو) الذي يضمن نظامه الأساسي تكافل الأعضاء مع أي دولة تتعرض لعدوان. وقد كان يغذي هذه المخاوف الخلافات الكبيرة في أكثر من ملف بين
روسيا من جهة وتركيا والناتو من جهة أخرى، وسجلُّ روسيا الزاخر بالمبادرات الجريئة والمفاجئة مثل التدخلات العسكرية المتتالية في جورجيا وأوكرانيا وسوريا، فيبقى فقط أن يحصل أي حادث عرضي أو مقصود أو حتى مفتعل ليشتعل الفتيل.
ولحسن حظ الطرفين والمنطقة والعالم، فلم يكن ذلك الخيار هو الأوفر حظا من الناحية النظرية، لرغبة الطرفين في تجنبه، كما لم يحدث - على الأقل حتى الآن - في الواقع العملي، رغم الاستفزازات الروسية المتكررة التي قابلتها تركيا بالهدوء والحكمة والصبر. بينما فعّلت روسيا منظومة أخرى متكاملة من العقوبات على أنقرة تمثلت فيما يلي:
أولا، البروباغندا السياسية والإعلامية، واتهام أنقرة بدعم الإرهاب.
ثانيا، عقوبات اقتصادية متعددة لم تصل حتى الآن - ولا يتوقع لها - إلى الغاز الطبيعي وأمن الطاقة.
ثالثا، تكثيف أنشطتها العسكرية في
سوريا ضد حلفاء أنقرة، أي التركمان والمعارضة السورية "المعتدلة".
رابعا، الانفتاح على أكراد سوريا، أي حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه السياسية قوات حماية الشعب الكردية، وتقديم الدعم العسكري لهم.
خامسا، الإقدام على خطوات استراتيجية فيما يخص الوجود الروسي في سوريا والمنطقة، مثل منظومة الصواريخ المضادة للطائرات S 400، وبناء قاعدة عسكرية جديدة في سوريا، ومحاولات إقناع قبرص الجنوبية (اليونانية) ببناء قاعدة على أرضها، واستقدام طائرات وسفن حربية روسية لشرق المتوسط. وهي خطوات حدت من الدور التركي في سوريا بشكل كبير، من خلال حظرها الطيران التركي فوق سوريا ووأدها فكرة المنطقة الآمنة إلى أجل غير مسمى، وتهديد أنقرة بموجات كبيرة من اللاجئين، فضلا عن إضعافها حلفاءها في المعارضة السورية.
بيد أن هناك خيارا آخر لجأت له موسكو في معاقبة أنقرة لا يجب أن يغيب عن الملاحظة والتقييم، وهو ما يمكن تسميته بسياسة "عزل" أنقرة وتقويض دورها السياسي، متمثلا في:
1- تفعيل حلفائها الإقليميين ضد تركيا، وقد رأينا تجليات ذلك في وقف طهران للغاز المصدر إلى تركيا لفترة قصيرة كرسالة، وتصعيد بغداد في وجه أنقرة بسبب وجودها العسكري في شمال العراق، وتصريحات اليونان بعدم انتهاك موسكو للأجواء التركية من الأساس، وغيرها.
2- جلب دعم عدد من خصوم أنقرة الإقليميين، مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن لموقفها.
3- محاولة ثني حلفاء تركيا عن مواقفهم وجذبهم للتقارب معها تحت عنوان "محاربة الإرهاب"، وهي عملية كانت قد بدأت قبل أزمة المقاتلة عبر تغير الموقف الفرنسي إثر تفجيرات باريس.
4- محاولة إرضاء دولة الاحتلال "إسرائيل" في سوريا لقطع الطريق أمام أي تقارب محتمل لها مع أنقرة - خاصة في ملف الغاز - من خلال التنسيق معها في الطلعات الجوية فوق الأراضي السورية وغض البصر عن قصفها لمواقع وعناصر حزب الله هناك.
5- لازال من غير الواضح إن كانت استضافة
السعودية لمؤتمر فصائل المعارضة السورية خطوة منسقة مع أنقرة، أم تقع ضمن إجراءات تحجيم الأخيرة في الملف السوري تحديدا من خلال نقل ملف المعارضة منها للرياض.
في الجهة المقابلة، تبدو مقاربة تركيا للأزمة واضحة نوعا ما، فهي تعتبر ما دون المواجهة العسكرية في العموم، وما دون قطع الغاز الطبيعي في الملف الاقتصادي مكسبا لها وتدليلا على إمكانية التهدئة، وتوفير الحلول الدبلوماسية للأزمة، وهو ما يفسر التصريحات والمواقف التركية المتتالية من عدد من المسؤولين - فسرها البعض ضعفا منها - آخرها وصف وزير الخارجية التركية للحادث على أنه "مؤسف".
فما هي الاستراتيجية التركية في مواجهة سياسات/محاولات عزلها في المنطقة؟
أعتقد أن هناك خطوة نفذتها تركيا، وأخرى قد تضطر لها.
أما الخطوة الأولى، فهي الاحتماء بحلف الناتو والاقتراب من مواقفه أكثر فأكثر. أولا لتجنب المواجهة العسكرية، وثانيا لتأمين شبكة أمان لمواقفها السياسية وكسر العزلة عن نفسها، ومن ضمن ذلك تقويض أي محاولات لعقابها دوليا، مثل الشكوى التي تقدم بها العراق لمجلس الأمن والتي تراهن أنقرة على عدم تحولها لقرارات أممية ضدها، في وجود حق النقض - الفيتو في يد ثلاثة من حلفائها في الناتو في مجلس الأمن.
وأما الخطوة المحتملة - ولو على المدى المتوسط أو البعيد - فهو محاولة تخفيف حدة التوتر مع عدد من الدول، واعتماد سياسة تدوير الزوايا معها مرة أخرى كما هو معهود عن براغماتية السياسة الخارجية التركية، وربما تكون الخطوة الأولى مع دولة الاحتلال "إسرائيل" عبر ملف الغاز الطبيعي. فقد لفتت الأنظار تلك التصريحات المتتالية في الصحافة العبرية عن التواصل القائم حاليا بين أنقرة وتل أبيب وعن "احتمال إضافة تركيا لقائمة تصدير الغاز المستقبلية" لتل أبيب، (من الغاز المسروق بالقوة من حقول فلسطين ولبنان) دون تعقيب يذكر من الأتراك.
ربما تؤدي هاتان الخطوتان إلى كسر الطوق عن تركيا في المدى المنظور، ولكن أيضا يجب التنبه إلى أن اللجوء مرة أخرى إلى حضن الناتو، قد يفقدها ما تمتعت به لسنوات من هامش استقلال جزئي ونسبي في السياسة الخارجية، بينما قد تبدل الخطوة الثانية - حال اضطرت إليها - بعضا من سياساتها إزاء ملفات وقضايا وقوى المنطقة العربية تحديدا. وهي، إضافة إلى الخسارة الجيوسياسية والجيواستراتيجية أمام روسيا في سوريا حاليا، تحديات ومخاطر تحمل الطابع الاستراتيجي بعيد المدى وعميق التأثير على مجمل التجربة التركية.
فالمنطقة العربية لا تحتاج تركيا قوية ومستقرة فقط، بل تركيا قوية ومستقرة ومستقلة قدر الإمكان، وهو التحدي الذي تواجهه تركيا تقريبا وحدها اليوم، وهو أيضا الأمر الذي يدفعنا لطرح السؤال للمرة المئة: كيف يمكن توقع الكثير من تركيا بينما لا تمد لها الدول الإقليمية "المتحالفة" معها يد العون والدعم، ولا تقدم لها كيانات ما دون الدولة أوراق قوة وإنجازات محلية ومرحلية، تستقوي بها على طاولة التفاوض والضغط والمساومات الدولية ؟؟!!!