الموقف العدائي للمحور العربي الخادم للسياسات الصهيونية من حكم حزب العدالة والتنمية التركي، لا يحتاج إلى أي قدر من الجهد في محاولة تفسيره، بالرغم من أن حكم هذا الأخير لم يشكل تحولاً جذريًا، دراميًا ومثيرًا، في موقع
تركيا من السياسات الغربية، أو في العلاقة مع الكيان الصهيوني، ولا يمكن القول حتى اللحظة، بأن التحولات التركية المتقدمة من القضية
الفلسطينية، أو من قضايا الأمة الإسلامية، في ظل العدالة والتنمية، قد وصلت إلى الحدّ الذي يجعلها ثوابت للدولة التركية نفسها، أو أرضية صلبة لقوى المقاومة والتحرر العربية.
كل ذلك دون إغفال أن نجاحات العدالة والتنمية، ارتكزت، في ما ارتكزت إليه، إلى مراعاة دور تركيا بالنسبة للسياسات الغربية، ومحاذير تلك السياسات المتعلقة بالكيان الصهيوني، كما فعل أردوغان بزيارته للكيان الصهيوني في الأول من أيار من العام 2005، أو كما سعت تركيا خلال حكم العدالة والتنمية طويلاً بالمفاوضات غير المباشرة بين كل من
سوريا والعدو الصهيوني، وحتى الآن فإن أصدقاء العدالة والتنمية في المقاومة الفلسطينية، والقوى الإسلامية والتحررية العربية، يعلمون جيدًا السقف الواطئ، والحدود الصارمة، لممكنات هذا الحزب تجاه قضاياهم.
بيد أن العامل الصهيوني، أساسي وحاسم في صياغة موقف هذا المحور العربي من حكم العدالة والتنمية، مع أن حكم هذا الأخير شديد الحذر والمراعاة فيما تعلق بالسياسات الغربية، وموقع الكيان الصهيوني منها، كما سبق بيانه، وإن كان هذا العامل، جزء من عوامل أخرى متضافرة صاغت موقف هذا المحور من حكم العدالة والتنمية، فدعم العدالة والتنمية، مثلاً، للثورات العربية وقواها التحررية وفي طليعتها الحركة الإسلامية، وبصرف النظر عن الأسباب والدوافع وعن مستوى الدعم، سيصطدم بمشاريع وسياسات قوى الثورة المضادة المعادية لحركة التحرر العربي وللحركة الإسلامية في الوقت نفسه، وفي طليعة الثورة المضادة هذا المحور المرتبط بالسياسات الصهيونية.
باختصار، ومهما كانت سياسات العدالة والتنمية المحكومة بالقيود القبلية على وجوده، فإنه، وبالنسبة إلى كل البدائل التركية الأخرى، هو الأفضل للقضية الفلسطينية وإلى قضايا الأمة عمومًا، وهذا فقط بالقياس إلى البدائل التركية الأخرى، وليس إلى ما ينبغي أن يفعله الحزب، أو ما يمكن أن يفعله في الحدّ الأدنى، وكذلك ليس بالقياس إلى قوى أخرى تجرأت وحدها على دعم المقاومة الفلسطينية بالسلاح، مهما كان الخلاف التالي مع تلك القوى في مشاريعها الخاصة وسياساتها الطائفية وتموقعها كقوى ثورة مضادة تلتقي مع هذا المحور العربي الخادم للسياسات الصهيونية من هذه الجهة، ومن ثم فإن مجرد كون العدالة والتنمية هو أفضل الموجود التركي سبب كاف لاتخاذ موقف عدواني تجاهه من طرف المحور الذي يعبّرُ عنه أحسن تعبير إعلام النظام الانقلابي في مصر أو الإعلام الممول من دولة الإمارات.
لا يختلف المحور الإيراني في موقفه من حكم العدالة والتنمية، عن ذلك المحور الخادم للسياسات الصهيونية، وتحديدًا من بعد الموقف الذي اتخذه العدالة والتنمية دعمًا للثورة السورية، فالسبب هنا مباشر وواضح ويتعلق بالموقف من الحالة السورية فحسب، تمامًا كما مجمل تحولات الخطاب الإعلامي للمحور الإيراني من بعد الاصطفاف القائم على أساس الحدث السوري، حيث أصبح الاصطفاف هو المعيار الوحيد الحاكم لمضامين هذا الخطاب، والمنشئ لأحكامه القيمية الموظفة سياسيًا، بصرف النظر عن صدقيتها في الواقع، فالاصطفاف مع إيران هو الذي يحدد المقاوم من الخائن، لا فعل المقاومة أو الخيانة في نفسه، فالخيانة هي الاختلاف مع إيران في الموضوع السوري أو اليمني، ولم تعد خيانة القضية الفلسطينية، أو العدوان على المقاومة الفلسطينية، وهكذا.
الفرق بين المحورين في موقفهما المتطابق من العدالة والتنمية، حتى لو اختلفت الدوافع؛ في أن المحور الإيراني، في خطابه الإعلامي، أو في المنطق السائد لدى جمهوره، يعيد تقديم موقفه مغلفًا بذات الشعارات حول فلسطين والاستعمار، فيستدعي النيتو فيما تعلق بتركيا، أو القاعدة الأمريكية فيما تعلق بقطر، مع أن هذه حقائق قبلية كانت موجودة حينما كانت علاقة هذا المحور بكل من تركيا وقطر في أحسن أحوالها، وهو الأمر الذي ينسف حتمًا صدقية هذا الاستدعاء.
التطابق في موقف كلا المحورين من العدالة والتنمية، ظهر في الأداء الإعلامي لمنابرهما الرسمية أو المتمولة منهما، في الانتخابات التركية الأخيرة، وفي حادثة إسقاط الطائرة الروسية، وفي الحادثتين كان ثمة استدعاء دائم للنيتو، من طرف منابر المحور الإيراني، وكعنصر ثابت في سجالات جمهوره في مواجهة خصومهم، بما ينطوي على تناقضات هائلة تثير الدهشة من الغفلة عن ملاحظتها، والتي من أوضحها، أن البدائل التركية المفضلة للمحور الإيراني هي التي ألحقت تركيا الحديثة بالسياسات الغربية، وأن هذه البدائل استظلت بالنيتو منذ أن دخلته تركيا في العام 1952 وحتى تأسيس العدالة والتنمية، فلا معنى للمفاضلة بين العدالة والتنمية وخصومه في الانتخابات من جهة النيتو، تمامًا كما أن الوجاهة تنعدم حين تفضيل روسيا على تركيا من جهة العداء للاستعمار، ليس فقط لأن تركيا المسلمة مكون طبيعي في المنطقة وشكلت تاريخيًا حائط صد في مواجهة الهجمات الاستعمارية على بلاد العرب والمسلمين، ولكن لأن روسيا لا تختلف في شيء عن القوى الغربية المشكلة للنيتو كدولة استعمارية، لا تزال تنهض بجسدها الحالي (روسيا الاتحادية) على إرث استعماري جعلها أكبر دول العالم جغرافيًا.
لا ينكشف الغطاء عن شعارات المقاومة والعداء للاستعمار فقط لهذه الأسباب، إذ يكفي التطابق في الموقف بين كل من المحور الخادم للسياسات الصهيونية والمحور الإيراني، لانهيار كل أدوات التحليل الدعائية التي تستخدمها منابر المحور الأخير ومثقفوه، فالعلاقة مع الخليج أو تطابق المواقف مع بعض دوله أو اتخاذ سياسات براغماتية معينة في التعامل مع الغرب أداة لإسقاط الخصوم في حجاج جمهور المحور الإيراني، بما في ذلك مثقفوه، لكن هذه الأدوات تكفّ عن فاعليتها لدى هذا الجمهور، وبصورة مدهشة، حين محاكمة محورهم إليها، فتصير القوى الشيعية العراقية المهيمنة بفضل الدبابة الأمريكية الغازية قوى مقاومة، وتصير البدائل التركية الأكثر ارتباطًا بالسياسات الغربية والأقرب إلى الكيان الصهيوني أفضل الموجود التركي بالنسبة لـ "محور المقاومة"!.
من الواضح أن الحديث هنا عن أفضل الموجود التركي، أي المفاضلة بين القوى والأحزاب التركية، وليس بين تركيا والقوى والأحزاب الإقليمية الأخرى، فإذا كان مفهومًا أن يرى جمهور المحور الإيراني إيران أفضل الموجود الإقليمي أو العالمي، فليس مفهومًا استحضار إيران كلما كان الحديث عن أفضل الموجود التركي، وكأن المفاضلة بين تركيا وإيران، أو كأن حزب الشعب الجمهوري مثلاً هو إيران، ولكنه منطق الاصطفاف ونمط من الوثنية.