كتبت راغدة درغام: بعد عشرة أيام في مدينة نيويورك، ستتزاحم المبادرات والتفاهمات والصفقات تحت عنوانين أساسيين هما الإرهاب والهجرة، وكلاهما مرتبط في أذهان قادة العالم بسوريا في الدرجة الأولى، ثم بالأزمات الأخرى المتفشية في المنطقة العربية.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما دعا إلى قمة حول الإرهاب وفي باله "داعش" أولا. والرئيس الروسي فلاديمير
بوتين كلّف وزير خارجيته سيرغي لافروف أن يترأس جلسة وزارية لمجلس الأمن تحمل عنوان "الحفاظ على السلام والأمن الدوليين: تسوية النزاعات في الشرق الأوسط ومناهضة الخطر الإرهابي في المنطقة".
الرئيس بوتين أبلغ العالم صراحة بأن
روسيا تنوي خوض الحرب مباشرة وميدانيا ضد تنظيم "داعش" وأمثاله في ساحة المعركة السورية، وتنوي التمسك بالنظام السوري حليفا أساسيا في هذه الحرب، وتريد من الولايات المتحدة أن تكون شريكا عسكريا لها -وللنظام- في هذا المسعى.
الرئيس بوتين يريد اللقاء مع الرئيس أوباما في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تحتفي بعيدها السبعين. وقفة خاطفة أمام ما قاله سفير روسيا الحذق لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، لمحطة "سي.بي.أس" تكشف عن جزء من الاستراتيجية الروسية.
قال: "أعتقد بأن هناك أمرا نتشاطره مع الولايات المتحدة، مع الحكومة الأمريكية: إنهم لا يريدون لحكومة الأسد أن تسقط. لا يريدون لها أن تسقط. يريدون محاربة داعش بصورة لا تؤذي الحكومة السورية".
وتابع تشوركين: «إنهم لا يريدون للحكومة السورية أن تستغل حملتهم على «داعش». لكنهم لا يريدون إلحاق الأذى بالحكومة السورية بأفعالهم. فالمسألة معقدة جدا».
معقدة جدا، بالتأكيد، إن كان ما يقوله تشوركين مبنيا على افتراضات وتمنيات، أو إن كان حقيقة لا تعترف بها الإدارة الأمريكية علنا.
فإذا كانت هذه مجرد قراءة روسية للسياسة الأمريكية، فهي جزء من استراتيجيتها لتسويق ما تبتغيه لأنها تفترض أن واشنطن لن تتحداها عمليا. وبحسب تشوركين «المسألة واضحة تماما في ذهني... إن أحد مصادر القلق الجدية للحكومة الأمريكية الآن هو سقوط نظام الأسد وقيام «داعش» بالسيطرة على دمشق، وتكون الولايات المتحدة حينذاك موضع اللوم لما حدث».
قد يكون الرئيس السوري نفسه العقدة أمام تفاهمات أمريكية – روسية، كما كان دوما، وقد يكون النظام هو المخرج من عقدة الأسد. حتى الآن، إن الموقف الأمريكي الذي نطق به باراك أوباما – ولم يتنازل أو يتخل عنه بعد – هو أن الأسد فقد الشرعية وعليه أن يرحل. الرئيس الأمريكي وإدارته تعمّدا إسقاط هذا الشرط – في أكثر من مناسبة – في التصريحات العلنية، لكن هذا ما زال الموقف الرسمي الذي لم يتنازل عنه باراك أوباما صراحة.
في المقابل، وبكل وضوح ولأول مرة، قال الرئيس الروسي إن الدعم الروسي للحكومة السورية سيستمر سياسيا وسيتضاعف عسكريا؛ لأنها الحليف الذي لا غنى عنه في الحرب على الإرهاب في سوريا.
الديبلوماسية الروسية تتوجه إلى نيويورك بعد عشرة أيام متأبطة مشروعا متكاملا للانخراط في الشرق الأوسط. بالمقابل، تبدو الديبلوماسية الأمريكية متحفظة ومنساقة رغما عنها إلى البحث في أزمات المنطقة.
هذا لا يعني أبدا أن الإدارة الأمريكية اعتزلت الشرق الأوسط. ونتائج زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى واشنطن مثال على اللااعتزال. إنما المسافة بين الانخراط واللااعتزال مهمة للاستراتيجية، لا سيما وأن روسيا بوتين تعتزم الاستفادة منها بأقصى الحدود الممكنة.
القاسم المشترك بين الأولويتين الأمريكية والروسية هو تقزيم واختزال الأمر الواقع للمسألة السورية إلى إرهاب. واشنطن لا تنخرط في سوريا بقرار رئاسي أتُخِذَ منذ سنوات. هذا اللاانخراط ساهم عمليا في تحويل الأزمة السورية من انتفاضة مدنية إلى حرب أهلية إلى ساحة اجتذاب للإرهاب بقرارٍ من عدة لاعبين، بينهم الحكومة السورية وحكومات عربية وإقليمية ودولية. في المقابل، مارست موسكو سياسة الانخراط بشراكة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية و«حزب الله» لدعم النظام في دمشق، وهكذا دخلت طرفا في الحرب الأهلية، وساهمت فعليا في تحويل سوريا إلى مسألة إرهاب.
تريد موسكو وواشنطن اليوم، سحق «داعش» وأمثاله في سوريا كما في
العراق، لذلك تتأبطان ملف الإرهاب وتتوجهان به إلى الأمم المتحدة لحشد الدعم الدولي لاستراتيجيته. «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة وتشارك فيه دول عربية انصّب على العراق، وهو لا يضم بين أعضائه روسيا أو إيران، مع ان إيران شريك سرّي للولايات المتحدة في الحرب على «داعش» في العراق.
هذا التحالف أثبت إما الفشل والانهزام نسبيا أمام «داعش»، أو، أنه لا يتنبه إلى العناصر السياسية المهمة والضرورية إذا كُتِبَ له النجاح، وواشنطن هي المسؤولة عن هذا التقصير. فإدارة أوباما انصبّت كليا على هوسها بإنجاح الاتفاق النووي مع طهران، ورفضت التنبه لمتطلبات إنجاح «التحالف الدولي» إذا ما تعرّضت لإيران، بل اختارت شراكة سرية معها. وهكذا سمحت «للحرس الثوري» الإيراني وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني أن يتباهى علنا بالشراكة السرية مع العراق، وخسرت الكثير مما كان من شأنه أن يحشد الدعم الضروري لسحق «داعش» ميدانيا وسياسيا.
قاسم سليماني له علاقة أساسية بقرار روسيا الانخراط ميدانيا في الحرب على «داعش» وما يشبهه على الأراضي السورية. وجاء هذا القرار في أعقاب زيارته المعلنة إلى موسكو بتزامن مع ضعف بنيوي خطير على النظام في دمشق، أثار قلق طهران حليفة النظام. القلق الروسي – الإيراني على مصير نظام الأسد أدى إلى تحوّل في اتجاه معاكس للذي توقعه، وتحدث عنه الرئيس أوباما عندما قال إن موسكو وطهران مستعدتان للتخلي عن الأسد حرصا على النظام.
كلاهما قرر أن الحديث عن مصير الأسد ليس في محله – أو أقله، سابق لأوانه حاليا – بل إن الأمر يتطلب تعزيز الدعم السياسي والعسكري لنظام الأسد.
إعلان الرئيس بوتين عن هذا القرار وربطه بالحرب على الإرهاب يدشن مرحلة جديدة للدور الروسي في سوريا. فقد تحدث بوتين عن تحالف إقليمي – دولي، وهو الآن يتحدث عن تحالف الحرب على الإرهاب بقرار دولي. إنما الخلاصة ذاتها وهي أن روسيا اتخذت قرار خوض الحرب على الإرهاب في سوريا.
متطلبات الحرب الروسية على الإرهاب في سوريا تقتضي، بحسب الرئيس الروسي، أن تكون لموسكو صلاحية القيادة. بوتين، عمليا، يقول لأوباما: لكم الحرب على «داعش» في العراق، ولي الحرب على «داعش» في سوريا. وهذا يتطلب أن توافق واشنطن – بصورة علنية أو ضمنية – على استراتيجية روسيا لكسب تلك الحرب، بشراكة مع النظام والاعتراف بمركزيته لتحقيق الانتصار ميدانيا.
فإذا وافقت واشنطن، هذا مستحسن لدى موسكو. وإذا لم توافق، فليكن. فقد قررت القيادة الروسية أن سوريا مفتاح أساسي لها ولمصالحها في الشرق الأوسط، وأن التحالف الروسي – الإيراني في مسألة سوريا يشكل أولوية استراتيجية. لماذا؟
هناك عنصر الوجود الميداني من أجل ممارسة النفوذ عبر تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة عسكرية روسية ومطار اللاذقية المدني إلى مطار عسكري في خدمة روسيا. هناك عنصر النفط والغاز في الساحل السوري وتداعياته على المصالح الروسية في قطاع النفط والغاز. هناك عنصر استعادة الاعتبار عبر بسط النفوذ الروسي بعدما استبعدت الولايات المتحدة روسيا عن العراق في حربها على الإرهاب هناك، وبعدما «خدعت» دول حلف شمال الأطلسي روسيا في ليبيا. هناك مسألة فائقة الأهمية لروسيا هي منع صعود الإسلاميين إلى السلطة، كما حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا تحقيقه في مصر عبر دعم «الإخوان المسلمين» وتوليهم السلطة.
وهناك قلق روسيا الجدّي من الإرهاب الإسلامي واقتناعها أن انتصاره في سوريا سيأتي به إلى روسيا.
وكي تنجح الاستراتيجية الروسية، رأت موسكو أن لا بد من شق سياسي يحمل عنوان حل أزمات الشرق الأوسط، بدءا بسوريا. لذلك تتحرك ديبلوماسيا تحت عنوان توحيد المعارضة السورية، وهدفها الحقيقي كان تقليص «الائتلاف الوطني السوري» ومنع احتكاره المعارضة السورية.
تحركت لاستبدال عملية جنيف بعملية جديدة تنسف الفكرة الأساسية في بيان جنيف، أي إنشاء هيئة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية. وما قدمته من بديل هو بمنزلة تمزيق عملية جنيف بلطف على نسق إسالة دمائه بقطنة. ولذلك تحدث الرئيس بوتين عن استعداد الأسد لتقاسم السلطة مع المعارضة «الصحيّة» كما تعرفها الحكومتان السورية والروسية.
فروسيا متأهبة لدخول الشرق الأوسط بعدما أُخرِجَت منه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. والولايات المتحدة تبدو تقول لروسيا أن تتفضل لأنها غير راغبة بالانخراط، مع أنها غير جاهزة للاعتزال حتى إشعار آخر.
(عن صحيفة الحياة اللندنية 18 أيلول/ سبتمبر 2015)