لن يفيد أكراد العراق العناد القاطع في وجه الغضب العارم من قبل الحكومة العراقية وتركيا وإيران، والاستياء الأمريكي أيضا من إصرار القيادة الكردية على إجراء استفتاء على قيام دولة مستقلة يؤدي عمليا إلى تقسيم العراق.
في المقابل، لن تكون حكمة من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن ينفذ توعده بإرسال قوات إلى منطقة كركوك النفطية وفرض حظر جوي على كردستان العراق، ما لم يسلّم رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني السيطرة على مطاري أربيل والسليمانية إلى بغداد.
ثم إن تعهد العبادي للبرلمان العراقي أن الحكومة لن تدخل في حوار ومحادثات مع القيادة الكردية ما لم تقم بإلغاء الاستفتاء وما يترتب عليه، إنما يغلق الباب على التفاهمات السياسية الممكنة ويشرِّعها على المواجهة العسكرية بين أهالي العراق من أكراد وعرب ويستدعي تدخل تركيا وإيران ضد الأكراد.
تراكمات أخطاء القيادات الكردية وعنادها أدّت إلى الوضع الراهن الخطير حيث زج الأكراد أنفسهم في زاوية صعبة لن يكون سهلا الخروج منها بأمان. رأي الداعمين قرار إجراء الاستفتاء في موعده هو أن التراجع عن إجرائه «انتحار سياسي» لمسعود بارزاني من دون ضمانات دولية وموعد حاسم للاستقلال. الناقدون لقرار بارزاني يلومونه على المجازفة في وجه كل النصائح والتوسلات لتأجيل الاستفتاء كي لا يكون الأكراد مفتاح تقسيم العراق، وهم يقولون إن الأكراد الآن ينتحرون بين أنياب تركيا وإيران ودولة العراق بسبب الإصرار على الاستفتاء. لا مناص الآن من تراجع جميع اللاعبين وهناك ضرورة قصوى لدور أمريكي وروسي استباقي وآني لمنع التدهور والمواجهة العسكرية.
الانفتاح الخليجي، السعودي خصوصا، على العراق في الآونة الأخيرة يمكن أن يمهّد لدور إيجابي في إطار الموازين الداخلية، لا سيـــما أن العلاقات مع حـــيدر العـــبادي تتحسن. فما يقوله أكراد العراق هو أن دولة العراق باتت مذهبية تسيطر عليها فعليا الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأن أحد أهم أهداف الاستفتاء هو الدخول في حوار جدي مع بغداد واستخدام نتيجة الاستفتاء كورقة ضغط نحو دولة كونفدرالية ديموقراطية، بدلا من المضي بإخضاع العراق للإرادة الإيرانية. لكن ماذا الآن بعدما وصل التشنج إلى درجات خطيرة وجرى توجيه الإنذارات ليس فقط بإلغاء الاستفتاء الذي تعتبره بغداد غير شرعي وغير دستوري، بل أيضا إمهال القيادات الكردية 72 ساعة لتسليم المطارات والمعابر وإعادة الحقول الشمالية في كركوك والمناطق المتنازع عليها إلى إشراف وسيطرة وزارة النفط الاتحادية في بغداد.
لعل أسهل التنازلات وأصعبها يكمن في تعريف مهمة الاستفتاء بما يجعله أقرب إلى استبيان الرأي بدلا من اعتباره وثيقة تخويل للمضي إلى دولة كردية مستقلة في العراق. هكذا يمكن شراء الوقت لبدء المفاوضات مع الاحتفاظ بواقع لا يمكن التراجع عنه هو أن 92 في المئة من الناخبين الأكراد صوتوا لمصلحة الاستقلال. وهكذا يمكن الحكومة العراقية أن تتراجع بلطف عن طلبها التعجيزي واللامنطقي وهو إلغاء استفتاء تم إجراؤه بكل الأحوال. أوساط أمريكية عدّة شجعت أكراد العراق على المضي إلى الاستقلال واعتبرت أن قيام الدولة الكردية المستقلة في العراق بات واقعا لا عودة عنه.
هذه الأوساط باركت انتزاع الدولة الكردية لكركوك باعتبارها المصدر النفطي الرئيسي لها، وعلى أساس أن فرض الأمر الواقع على بغداد سيجعلها ترضخ له، وهي التي زرعت في أذهان القيادات العراقية أن الوقت المناسب لفرض الدولة الكردية المستقلة هو الآن، وهي التي ضخّت فيها الإصرار والعناد باعتبار أن الاستثمارات الكردية العسكرية في الشراكة مع الولايات المتحدة لإلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش» لها مردودها الذي حان قطفه الآن.
المفاجأة أتت بالنسبة إلى القيادات الكردية بمواقف إدارة ترامب التي صدمت القيادات وجعلتها تعتقد – ربما – أنها للاستهلاك وغير جدية. فالقيادة الكردية كانت عارمة الثقة بالدعم الأمريكي لمشروع الاستقلال الذي هو عمليا مشروع البدء بتقسيم العراق. فهي حقا وضعت الأكراد في الصف الأول من الحرب على «داعش» عبر «البيشمركة» في العراق واعتقدت أن ذلك الاستثمار وضعها في مرتبة مميزة لدى واشنطن.
ثم هناك عنصر الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي كان مطاطيا في اعتبارات أكراد العراق إذ تارة تلقوا الدعم العسكري من إيران أثناء عمليات الحرب على «داعش» ومعظم الأحيان اعتبروا أن «الحرس الثوري» الإيراني يصدّر نموذجه عبر «الحشد الشعبي» في العراق ليستفرد بالسلطة. مأسسة «الحشد الشعبي» أخاف الجانب الكردي واعتبر أنه إذا لم يتحرك الآن، لفات الأوان، ولن يكون للأكراد مكان غدا.
«نحن عائق المشروع الإيراني في المنطقة» وفق تعبير مصدر كردي معني، «والقيادات الكردية رفضت جعل المناطق الكردية ممرات للأسلحة الإيرانية إلى سورية». لذلك صُدِمت القيادات الكردية عندما أتى الموقف الأمريكي ليدعم عمليا المشاريع الإيرانية للعراق «فأثبتوا الولاء لحليفهم الأكبر، وهو إيران، على رغم ما يدّعون بأنه يشكل خطرا على أصدقائهم ويصدّر الإرهاب».
الأكراد خائفون من إخضاع العراق لهيمنة إيران وهم يشعرون بالتهميش والإقصاء. لذلك ينظرون إلى ردود الفعل الأمريكية والتركية والإيرانية والعراقية بأن فيها «ظلما وغدرا؟ حدة مواقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ضد إجراء الاستفتاء أدهشتهم. ردود الفعل الديبلوماسية والسياسية ربما كانت ضمن حساباتهم بأنها مجرد زوبعة لفترة قصيرة، ثم تهدأ، إنما الإجراءات العملية التي توعّد بها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والقيادات الإيرانية المختلفة هي التي دفعت أكراد العراق إلى كابوس اليقظة.
علاقات الأكراد مع واشنطن تبقى في غاية الأهمية وهناك حاجة لتتوقف إدارة ترامب عن تكرار اللوم على عدم تأجيل الاستفتاء والإقدام على «تنفيسه» – إذا شاء التعبير – ليكون الوسيلة إلى الحوار والمفاوضات حول كامل المسائل العالقة بين بغداد وأربيل كي يكون استقلال إقليم كردستان لاحقا جزءا من كونفدرالية عراقية وطنية بدلا من أن يكون نقطة الانطلاق إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء منفصلة.
في هذه الأثناء، يمكن الديبلوماسية الأمريكية لو شاءت - أن تلعب دورا لاحتواء الهيمنة الإيرانية على العراق برمته وفرض حكم ديني عليه على نسق الحكم الثيوقراطي في إيران. هذا يتطلب من واشنطن تبني استراتيجية شاملة وجدية ومتماسكة نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية – وهذا ما يبدو حاليا بأنه بعيد المنال رابضا في الخيال. إذا بقيت السياسة الأمريكية الخارجية مبعثرة تعتمد من البلاغة في الخطاب rethoric والمجاملة اللفظيةLip Service، لن يكون أمام العراق سوى التقسيم ليس لأن هذا ما يريده الأكراد وإنما هو تماما ما تريده إيران لتتمكن من فرض القوس أو الهلال الفارسي الممتد من طهران إلى بيروت عبر الأراضي العراقية والسورية التي تتركها واشنطن تستولي عليها بلا احتجاج.
روسيا شريك لكل من إيران وتركيا في سورية تحت عنوان الضامنين لوقف النار وهي كانت حريصة على صيانة الأكراد من الأتراك مع أن «القوات السورية الديموقراطية» حليف أمريكي في الساحة السورية.
بعض أكراد العراق يعتبرون أن ابتعاد الولايات المتحدة عنهم يشكل فرصة لروسيا أن تكون البديل الشريك، وهم يشيرون إلى أهمية أن يكون لروسيا موطئ قدم في العراق علما أن العراق ما زال مغلقا أمام روسيا وأن روسيا كانت تعتبر العراق لها في الموازين الجغرافية – السياسية قبل حرب جورج دبليو بوش في العراق – وبحسب تقويم هؤلاء، أن روسيا قد تحبذ وحدة العراق لكنها «تفهم وتتفهم الإرادة الوطنية الكردية» وهناك حوار قائم مع حكومة إقليم كردستان يشمل صفقات نفط وغاز للأتراك دور فيها أيضا.
الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يُعد من أصلب المعارضين للاستفتاء اليوم فيما كان في الماضي القريب أقل انتقادا له. فجأة انه يتعهد بتجويع الأكراد في الإقليم وبالعمل العسكري المشترك مع العراق إذا تطلب الأمر وهو ينسق مع إيران لاحتواء الطموحات الوطنية للأكراد في كل من تركيا وإيران. انه يهدد بإرسال قوات لإنشاء ممر عازل بين أكراد سورية وأكراد العراق عبر «درع دجلة» ليكون مشابها «لدرع الفرات» في شمال سورية.
الأجواء المشحونة خطيرة جدا والحاجة ماسة إلى مبعوث أمريكي أو دولي مهمته استباق التدهور عبر مقترحات عملية وعادلة تعالج التدهور الآني وتتقدم بآليات وإجراءات واقعية عبر حلول خلاّقة. فلا يكفي الاستياء من إجراء الاستفتاء أو من التهديد بغلق الحدود والأجواء. ذلك أن الاشتباك العسكري ليس مستبعدا وهو سيكون حقا الكارثة حيث قوافل الجثث والجنائز تعود إلى العراق مرة أخرى بسبب أخطاء القيادات المتراكمة.